- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:نظائر قرآنية
آية المداينة - وهي أطول آية في القرآن - تحدثت عن آداب الدين والمعاملات التجارية، وقد تضمنت العديد من أحكام المعاملات، وآداب التعامل، وضروب البلاغة، ووجوه من اللطائف.
يقول عز من قائل: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم} (البقرة:282).
نسعى في هذا المقام إلى الوقوف على بعض لطائف هذه الآية الكريمة.
اللطيفة الأولى: تتعلق بقوله تعالى: {تداينتم بدين} ، قد يقال هنا: لماذا قال: {بدين}، مع أنه يغني عنه قوله سبحانه: {تداينتم}، أجيب عن هذا، بأن هذا اللفظ له فائدتان: لفظية، ومعنوية.
أما الفائدة اللفظية، فليعود إليه الضمير في قوله {فاكتبوه}؛ لأنه لو لم يذكر هذا اللفظ لوجب أن يقال: (إذا تداينتم فاكتبوا الدين)، وهذا غير جيد، كما قال الزمخشري. ولا يقال هنا: إن قوله: {تداينتم}، يغني عنه؛ لأن (الدين) لا يراد به المصدر، بل هو أحد العوضين، ولا دلالة لـ (التداين) عليه إلا من حيث السياق، ولا يكتفى به في معرض البيان، ولا سيما وهو ملتبس.
وأما الفائدة المعنوية، فهي أن قوله: {تداينتم} صيغة مفاعلة، من (الدين)، ومن (الدين)، فجيء بهذا اللفظ {بدين}؛ ليدل على أنه من (الدين)، لا من (الدين). وأيضا، فإن لفظ (التداين) يدل على المجازاة المعنوية، فلو لم تخصص المفاعلة بهذا اللفظ، لجاز أن يقصد به المجازاة بالمودة، كما قال الشاعر:
داينت أروى والديون تقضى فمطلت بعضا وأدت بعضا
اللطيفة الثانية: تتعلق بقوله تعالى: {إلى أجل مسمى}، فوصف الأجل بـ (المسمى)؛ ليعلم أن التأجيل لا بد أن يكون وقته معلوما، كالتوقيت بالسنة والشهر واليوم، وليس معلقا بوقت مجهول. قال الرازي : المداينة لا تكون إلا مؤجلة، فما الفائدة في ذكر الأجل بعد ذكر المداينة؟ الجواب: إنما ذكر الأجل ليمكنه أن يصفه بقوله: {مسمى}؛ والفائدة في قوله: {مسمى}؛ ليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما.
اللطيفة الثالثة: تتعلق بقوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين}، قد يقال هنا: إن قوله سبحانه: {رجلين} تكرار لضمير التثنية في قوله: {يكونا}؛ لأن ألف التثنية راجعة إلى قوله سبحانه: {شهيدين من رجالكم}، وهو بمعنى: رجلين، فكأنه قال: فإن لم يكن الرجلان رجلين...وهذا محال، فما فائدة قوله: {رجلين}.
أجيب عن هذا بعدة إجابات، أرجحها: أن يكون الفعل (يكون) فعلا تاما، وليس فعلا ناقصا، وتكون ألف الاثنين فاعلا له، و{رجلين} حالا، ويكون المعنى على هذا: فإن لم يوجد الشهيدان حال كونهما رجلين...وتكون الفائدة من ذكر {رجلين}، كما قال الزركشي: إن شهيدين لما صح أن يطلق على المرأتين، بمعنى: شخصين شهيدين، قيده بقوله: {من رجالكم}، ثم أعاد الضمير في قوله تعالى: {فإن لم يكونا} على الشهيدين المطلقين، وكان عوده عليهما أبلغ؛ ليكون نفي الصفة عنهما كما كان إثباتها لهما، فيكون الشرط موجبا ونفيا على الشاهدين المطلقين؛ لأن قوله {من رجالكم} كالشرط، كأنه قال: إن كانا رجلين. وفي النظم على هذا الأسلوب من الارتباط، وجري الكلام على نسق واحد ما لا خفاء به.
اللطيفة الرابعة: تتعلق بقوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}، ظاهر السياق يقتضي أن يقال: (أن تضل إحداهما فتذكرها الأخرى)، فما فائدة إعادة قوله: {إحداهما} مع أن حقها الإضمار؟
اختلفت أقوال المفسرين في توجيه ذلك، والذي اختاره ابن عاشور أن النكتة في هذا الإظهار قصد استقلال الجملة بمدلولها؛ كيلا تحتاج إلى كلام آخر يعود عليه الضمير لو أضمر؛ وذلك يرشح الجملة لأن تجري مجرى المثل. وكأن المراد هنا: الإيماء إلى أن كلتا الجملتين: {أن تضل}، {فتذكر}، علة لمشروعية تعدد المرأة في الشهادة، فالمرأة معرضة لتطرق النسيان إليها وقلة ضبط ما يهم ضبطه، والتعدد مظنة لتفادي النقص والخلل، فعسى ألا تنسى إحداهما ما نسيته الأخرى.
هذا، وقد ذكر أبو حيان في "تفسيره" أن هذه الآية تضمنت العديد من ضروب الفصاحة والبلاغة، فلينظرها طالبها هناك.