لعله نزعه عرق

4 3098

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء رجل من بني فزارة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود -وهو يريد الانتفاء منه- فقال له: (هل لك من إبل؟) ، قال: نعم، قال: (ما ألوانها؟) ، قال: حمر، فقال له: (هل فيها من أورق؟) ، قال: نعم، قال: ( فأنى كان ذلك ؟) ، قال: أراه عرق نزعه ، قال: ( فلعل ابنك هذا نزعه عرق) ، ولم يرخص له في الانتفاء منه" متفق عليه.

معاني المفردات

يريد الانتفاء منه: أي يريد نفي صلة ولده منه.

حمر: جمع أحمر.

أورق:هو ما كان في لونه بياض مائل إلى السواد.

عرق نزعه: العرق هو الأصل من النسب، والمقصود أنه جاء على صفات واحد من أجداده.

تفاصيل الموقف

مسألة الشرف عند العرب قضية لا تقبل المساومة، فقد كانت بمثابة الخط الأحمر الذي لا يمكن تجاوزه، والحمى المحرم الذي لا يسمح بالاقتراب منه، وكيف لا يكون كذلك وكل شهم فاضل لا يقبل أن يكون عرضه محلا للتهمة أو موطنا للحديث، فتراه يدفع ماله ويبذل مهجته ودمه ثمنا رخيصا مخافة أن تناله سهام الظنون المسمومة.

ولئن كان العرب في جاهليتهم يعدون مجرد بشارتهم بالبنات عارا يلحقهم، وعيبا يحيط بهم، يتوارون لأجله عن أعين الناس، فكيف إذا تعلق الأمر بقرائن -صحت أم لم تصح- تومئ مجرد إيماء إلى وقوع أهله في المحذور؟، أيظن به التريث أو التمهل والبحث في المسألة؟ أم ستراق دماء بغير حق وتزهق نفوس من غير ذنب؟.

هذه الإضاءة هي التي ستبين لنا عظمة الجيل الذي رباه النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلمه، ولن نضرب المثل هنا بصحابته الذين لازموه وعايشوه على الدوام، ولكن بأعرابي من أعراب البادية الذين كانت سيوفهم بالأمس القريب تقطر دما من حروب تافهة وثارات عقيمة وأسباب ساقطة.

إنه ضمضم بن قتادة رضي الله عنه، رجل من بني فزارة، ظل ينتظر قدوم المولود بفارغ الصبر، وسرعان ما تجهم وجهه حينما أبصره أسود اللون.

من أين جاء سواد الغلام على خلاف حاله وحال أمه؟ أتراها قد فعلتها دون علمه؟ أتراها قد هتكت سترها وبذلت عرضها وأضاعت شرفها؟ لكن هذه الأسئلة على عظمها في نفسه وأثرها في قلبه ظلت حبيسة تفكيره ولم تؤد إلى فعل طائش وغيرة قاتلة، بل جعلته يذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليسأله عما يدور في باله.

ثم سرعان ما مثل بين يديه عليه الصلاة والسلام قائلا :" إن امرأتي ولدت غلاما أسود" ولم يتهمها صراحة، وجاء في رواية أخرى:".. وإني أنكرته" يقصد استنكاره للون الولد، لا إنكاره للنسب ، ولقد كانت كلماته تنطق بشكوكه حول صحة نسبه إليه.

والنبي صلى الله عليه وسلم أدرك مراد الرجل على الفور، فأراد أن يطمئنه أن هذا التباين الحاصل في لون البشرة جائز عقلا، وله في الواقع شواهد ونظائر، فقال له:  (هل لك من إبل؟) ، قال: نعم، قال: (ما ألوانها؟) ، قال: حمر، فسأله إن كان فيها ما يخالف لونها وما سبب ذلك؟ فقال: أراه عرق نزعه ، قال: ( فلعل ابنك هذا نزعه عرق) .

وكان هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم تطمينا للفزاري، وبيانا أن مجرد هذا الاختلاف لا يبيح له نفي نسب الولد إليه.

إضاءات حول الموقف

في الموقف النبوي ملمح تربوي وفوائد فقهية وأصولية، أما الملمح التربوي الذي يتعلق بالحادثة: فهو بيان حسن تقدير النبي صلى الله عليه وسلم للأمور؛ فإن المسألة لها علاقة بالنسب والشرف، والسائل أعرابي من البادية، فلم يكن من الحكمة الاكتفاء بالجواب المباشر الذي قد لا يشفي غليلا خصوصا في مثل هذه الأمور الحساسة.

وعند النظر إلى طبيعة المثال الذي ضربه النبي –صلى الله عليه وسلم- للأعرابي يتبين حسن تعليمه عليه الصلاة والسلام للناس حين اختار مثالا يلامس واقع السائل وبيئته، كما أن ذلك المثل المضروب لم يكن على صيغة خبرية كما جرت العادة، بل كان قائما على أسئلة مترابطة تستنطق الأعرابي وتقوده إلى القناعة بنفسه، فصلوات الله وسلامه على معلم البشرية الأول.

ومن فوائد الحديث الفقهية: أن الزوج لا يباح له الانتفاء من ولده لمجرد شبهة عرضت أو ظن موهوم، وبيان احتياط الشريعة في مسألة الأنساب بإقرار الحكم السابق، والذي كان سببا لحفظ الكثير من الأنساب والروابط.

ومن فوائد الحديث الأصولية: أن هذا الموقف دليل على إثبات القياس وكونه حجة في استنباط الأحكام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استخدمه هنا حينما قاس طبيعة التناسل في عالم البشر بطبيعة التناسل في عالم الحيوان، والقياس من الأدلة الشرعية التي يلجأ إليها عند انعدام النص أو الإجماع، يقول الإمام وقال ابن العربي: "فيه -أي في الحديث-دليل على صحة الاعتبار بالنظير".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة