ركائز التدين

0 1116

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين، وبعد:

فإن من تأمل في واقع أهل الإسلام اليوم رأى بفضل الله - تعالى - شيوع الخير، وعموم البر، واتساع دائرة المعروف في كثير من مناحي الحياة؛ إلا أن في تلك المسيرة المباركة ظاهرة مكدرة، تتمثل في اختلاف درجات الاستقامة وتعظيم الحرمة في بعض جوانب الحياة لدى فئات من المتدينين؛ بحيث تجد المرء الواحد - مثلا - حريصا على دعوة الآخرين لكنه خلي من بر الوالدين وصلة الرحم، أو عري مما لا يسعه جهله من أحكام الشريعة، أو معنيا بالاحتساب لكنه سيئ الخلق عسر التعامل، أو يبدو حريصا على نوافل العبادات لكنه ذو هشاشة بينة في أداء الحقوق والتعاملات المالية، أو يعرف منه محافظته على الواجبات العينية: من صلاة وصيام وصدقة لكنه لا يشتغل بالواجبات الكفائية: كتبليغ الدين وبذل النصيحة.

وليس الحديث هنا عن وقوع العبد فـي زلة في هذا الجانب أو ذاك نتيجة غفلة أو فتور يعتريه؛ إذ ذاك موضع للمجاهدة وميدان للابتلاء، كما قال تعالى: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم * إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون * وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون} [الأعراف: ٩٩١ - ٢٠٢] وقال  - صلى الله عليه وسلم -: كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون[رواه الترمذي وحسنه الألباني].

 بل الحديث عن ظاهرة تجزئة التدين، والبون الشاسع المستمر في الأخذ القوي لبعض الكتاب مع الإهمال شبه الكلي لبعضه الآخر، مع أنه - تعالى - يقول: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين * فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم} [البقرة: ٨٠٢ - ٩٠٢].

أسباب الظاهرة:
ولعل مرد تلك الظاهرة الخطيرة إلى أمور عدة، من أبرزها:
- عناية بعض الدعاة وطلبة العلم بمسألة العلم بأمر الله - تعالى - ونهيـه، مـع الضعف البين فـي العنـاية بمسـألة العلـم به - تعالى - من خلال مطالعة أسمائه - تعالى - وصفاته، ومشاهدة آياته في الأنفس والآفاق، مما ولد هشاشة في بواعث التدين: من محبة لله - تعالى - وتعظيم لأمره، وورع في مقاربة حماه، ومن إجلال الله - تعالى - ومهابته، ومخافة التعرض لسخطه وعقابه، ومن الطمع في ثوابه - تعالى - ورجاء الظفر بدقيق لطفه وعظيم إنعامه في الدنيا والآخرة.

وهذا جانب محوري في التدين؛ إذ من لم يتعرف على جلال الله - تعالى - وكماله، ولم ير آثار ذلك في كل شيء حوله، ويتغلغل في سويداء قلبه استحقاقه - سبحانه - لجميع المحامد وصروف التذلل كلها، وأن الأمر أمره، ولا حول ولا قوة إلا له، والخير كله في يديه، والشر ليس إليه؛ كيف يستطيع - من كانت تلك صفاته - الانعتاق من أسوار الهوى وزخرف الشيطان ومفارقة حصون الشهوة؟!

ولذا؛ فإن ظاهرة الفصام النكد بين العلم بالله والعلم بأمره، والتـي ترى في وقتنـا الحـاضر بجـلاء - واقعا لا تنظيرا - في أوساط فئات عريضة من جيل الصحوة وأهل الدعوة، متى أردنا قوة في أخذ الكتاب وشمولا في التدين...

إن هذه الظاهرة لا بد أن تضعف إن لم تتلاش؛ لأنه لن يخشى الله ويتقيه إلا من كان متضلعا من العلم بالله، عارفا بأمره ونهيه، أما من أغفل الأمرين أو أحدهما على حساب الأمر الآخر؛ فإنه واقع في هذه الظاهرة ولا بد؛ إما لأنه لن يقدر الله - تعالى - حق قدره، وإما لجهله المريع بأمره - تعالى - ونهيه.

- ارتباط مفهوم التدين لدى كثير من شباب الإسلام بالأعمال الظاهرة على حساب استصلاح القلوب والعناية بأعمالها، مع أن القلب إمام الجوارح وشريف الأعضاء؛ بصلاحه تصلح، وبفساده تفسد؛ فمتى كان القلب سليما ليس فيه إلا محبة الله - تعالى - ومحبة ما يحبه - سبحانه - وخشية الله - عز وجل - وخشية الوقوع في ما يكرهه - تقدست أسماؤه -، فمتى كان القلب كذلك صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات وتوقي الشبهات؛ أما إذا كان القلب فاسدا قد استولى عليه اتباع هواه، فسدت حركات جوارحه، وانبعث صاحبه إلى كل المعاصي والمشتبهات بحسب قوة اتباعه لهواه..

يقول ابن القيم: (من تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح؛ وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما؟ وهل يتمكن أحد من الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه؟ وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم؛ فهي واجبة في كل وقت، ولهذا كان الإيمان واجب القلب على الدوام، والإسلام واجب الجوارح في بعض الأحيان؛ فمركب الإيمان القلب، ومركب الإسلام الجوارح)[بدائع الفوائد].

فالعناية بالقلوب والحرص على سلامتها مدخل الفلاح ومفتاح السعادة في الدنيا والآخرة، ومن تأمل في أحوال الناس اليوم شاهد بجلاء أن العناية بأعمال القلوب لا تتوازى مع جلالتها، وعلو منزلتها، وكونها شرط النجاة وركيزة التدين، والمحور الأعظم للإقبال على الله - تعالى - بل إن عامة جوانب الاختلال اليوم في وسط أهل الإسلام بعامة ومعاشر المتدينين بخاصة مردها إلى قلة الفقه في هذا الباب.

- التعلق بالدنيا وطلب راحتها والاشتغال بأعمالها عن الآخرة، وهو ما أدى إلى تشتت هموم القلب، وإلى عدم عكوفه على الله، وتفريغه لمحبته، تعـالى. وهـو ما يجعل المرء يخلط عملا صالحا وآخر سيئا بحسب اختلاف عمق غفلته ومدى قوى الهوى لديه نحو هذا العمل أو ذاك.

والداعي للوقوع في هذا الداء العضال هو: ضعف الوعي بطبيعة النفس البشرية ووظيفتها، ومحدودية الإدراك العميق لحقيقة الدنيا والآخرة، وقلة البصيرة بعواقب الأشياء ونتائجها، وعدم التحرز مما يمكن أن يكون؛ وإلا فمن يدرك ذلك: كيف لا يجمع همته على الله ولا ينصرف بكليته إليه، سبحانه. وهو يعلم حقارة الدنيا وهوانها، وعلو منزلة الآخرة وعظيم نعيمها وشديد عقابها وهول الخسارة فيها؟

إن الانغماس في الدنيا والوقوع في أسر ملذاتهـا من أعظم ما يسوغ للمرء الاستقامة على أجزاء من الدين والتفلت من بعضه الآخر، ويزيد من خطورة هذا الجانب غفلة عامة الخلق عن وقوعهم في إسار الغفلة وأوحالها؛ فاللهم! الهداية والنجاة.

- ضعف العزيمة ومحدودية الجدية في أخذ الكتاب بقوة؛ تعلما وتدبرا وعملا ودعوة، وكم فوتت دناءة الهمة على صاحبها من فرصة، وأورثته من تقاصر ومعصية؟

إن التعبد بحسب الهوى، والعجب بالعمل، ورؤية الطاعة اليسيرة، والوقوع في أسر الترف أو المعاناة من الفقر، والتسويف في الطاعة، وضعف التربية عن البدار إلى تلقي أوامر الشرع كله للتنفيذ بحسب الاستطاعة، وضعف التواصي بالحق والتواصي بالصبر، هو ما أدى إلى الإخلاد إلى الأرض، والاشتغال بالسفاسف، واستمراء المعاصي والسيئات، والاجتراء على الوقوع في المهلكات، والتواني عن تحمل المسؤولية الشرعية نحو النفس والمجتمع، والرغبة في الدعة والراحة وإن كان في ذلك مفارقة للشرع.

إن الجدية مقوم أصيل من مقومات شخصية المسلم الرزين، ولن يظفر بالاستقامة الشرعية - كما يجب - شخص غير متحل بها مهما تظاهر أو زعم. وإن التواني عن ركوب مطيتها مورث للهلكة، موقع في الردى على الصعيدين (الشخصي والجمعي).

وفي الجملة: فظاهرة تجزئة التدين والتفلت المستمر من بعض جوانب الاستقامة ومظاهرها داء عضال لا بد للخلاص منه من التشبث بركائز التدين، والمداومة على متابعة الشرع واستهدائه، والاستعانة بالله - تعالى - على تلافيه، والعناية بمحاسبة النفس، والقيام بمفارقة البطالين وأرباب الغفلة، وملازمة علماء الأمة الربانيين والأخذ عنهم، وتقوية قنوات التناصح وجسور الاحتساب في أوساط الدعاة والمصلحين متى أردنا التعبد لله بحق ومتانة، والظفر بسعادة الدنيا والنجاة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

فاللهم! اهدنا سبيلك، وبصرنا بدينك، وارزقنا الفقه عنك، والظفر بمرضاتك، وأعنا على تعاهد قلوبنا وصيانتها من الأدواء والأهواء، إنك جواد كريم، بر رحيم، وصلى الله وسلم على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــ
مجلة البيان

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة