غزوة بني المصطلق (المريسيع) دروس وعبر

2 1549

هذه الغزوة من الغزوات الهامة في حياة المسلمين في عهدهم الأول، لأنها كانت مرتعا خصبا للمنافقين، حيث اتخذوا فيها صنوفا من الكيد للإسلام والمسلمين، ولنبي الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقد حاولوا تمزيق وحدة المسلمين بإيجاد الشقاق بين المهاجرين والأنصار، وإعادة النعرة لجاهلية، كما وقعت فيها حادثة الإفك..

وهذه الغزوة وإن لم تكن كبيرة من الناحية العسكرية، إلا أنها اشتملت على أحداث جسام، وافتضح فيها المنافقون.. وتسمى هذه الغزوة بغزوة المريسيع وهو ماء لبني خزاعة، أوغزوة بني المصطلق وهم من بطن خزاعة، وقد ساهموا مع قوات قريش في معركة أحد..

جرت أحداثها في شعبان سنة خمس عند عامة أهل المغازي، وسنة ست على قول ابن إسحاق ..

وسببها أنه لما بلغ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الحارث بن أبي ضرار - رأس وسيد بني المصطلق ـ سار في قومه، وبعض من حالفه من العرب، يريدون حرب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقد ابتاعوا خيلا وسلاحا، واستعدوا للهجوم على المدينة، بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بريدة بن الحصيب الأسلمي ، ليستطلع له خبر القوم، فرجع بريدة وأكد للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صحة هذه الأخبار.. فأسرع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الخروج إليهم في سبعمائة مقاتل وثلاثين فرسا، وحيث إنهم كانوا ممن بلغتهم دعوة الإسلام، وكانوا قد شاركوا في غزوة أحد ضمن جيش المشركين، أغار عليهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم غارون (غافلون).. فعن عبد الله بن عمر قال: ( أغار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى سبيهم، وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث )( البخاري ).

وفي هذه الغزوة كشف المنافقون عن مدى حقدهم على الإسلام وعلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقد ازدادوا غيظا بالنصر الذي تحقق للمسلمين، وسعوا إلى إثارة العصبية بين المهاجرين والأنصار، فلما فشلت محاولتهم، سعى عبد الله بن أبي بن سلول ـ رأس المنافقين ـ إلى عرقلة جهود الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الدعوة، و منع الأموال من أن تدفع لذلك، وتوعد بإخراج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المدينة عند العودة إليها، وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل .

وحين علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك، استدعاه هو وأصحابه ـ المنافقين ـ ، فأنكروا ذلك، وحلفوا بأنهم لم يقولوا شيئا، فأنزل الله سورة المنافقين، وفيها تكذيب لهم ولأيمانهم الكاذبة، وتأكيد وتصديق لما نقله عنهم الصحابي زيد بن أرقم ، وذلك في قول الله تعالى:{ هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون . يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } (المنافقون8:7)..

 ولقد استأذن عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول في قتل أبيه لما قاله عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فنهاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك، وأمره بحسن صحبته ..

  ومن خلال أحداث هذه الغزوة، يمكن استخلاص العديد من الدلالات والدروس الهامة، وهي كثيرة، منها:

فضل جويرية بنت الحارث

كان من بين الأسرى الذين أسرهم المسلمون جويرية بنت الحارث بن ضرار سيد قومه، وكانت بركة على قومها، فقد ذكرت ـ أم المؤمنين ـ عائشة ( أن جويرية أتت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقالت له: قد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس ، فكاتبته على نفسي، فجئت أستعينك على كتابي.. فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهل لك في خير من ذلك؟، قالت: وما هو يا رسول الله؟، قال: أقض عنك كتابك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله قد فعلت.. قالت( عائشة ): وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تزوج جويرية بنت الحارث ، فقال الناس أصهار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأرسلوا ما في أيديهم من سبايا بني المصطلق.. فلقد أعتق تزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها ) ( أحمد )..

ومن ثم تعتبر غزوة بني المصطلق (المريسيع) من الغزوات الفريدة المباركة التي أسلمت عقبها قبيلة بأسرها، وكان زواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجويرية ـ رضي الله عنها ـ السبب في ذلك، إذ استكثر الصحابة على أنفسهم، أن يكون أصهار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحت أيديهم أسرى، فأعتقوهم جميعا، وهذه صورة من صور الحب والأدب من الصحابة مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أدت إلى إسلام القبيلة كلها..

لقد كان زواج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من جويرية بنت الحارث ـ رضي الله عنها ـ له أبعاده وأهدافه، والتي تحققت بإسلام قومها، فكثر عدد المسلمين، وعاد هذا الزواج على المسلمين بالدعم المادي والمعنوي..

وكانت ـ رضي الله عنها ـ مع عبادتها وصلاحها، تروي من أحاديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولقد حدث عنها عبد الله بن عباس وكريب ومجاهد ويحيى بن مالك الأزدي ، وبلغت أحاديثها سبعة، أضافت بها ـ إلى شرف صحبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمومتها للمسلمين ـ تبليغها للأمة ما تيسر لها من أحاديث المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ...

لا.. للعصبية والفرقة

عند ماء المريسيع كشف المنافقون عن حقدهم الذي يضمرونه للإسلام والمسلمين، فسعوا ـ كعادتهم دائما إلى يومنا هذا ـ إلى محاولة التفريق بين المسلمين، فبعد انتهاء الغزوة ـ كما يقول جابر بن عبدالله : ( كسع(ضرب) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين.. فاستثمر المنافقون ـ وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول هذا الموقف، وحرضوا الأنصار على المهاجرين، فسمع ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟، قالوا يا رسول الله: كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعوها فإنها منتنة ) ( البخاري ).

 فمع أن اسم المهاجرين والأنصار من الأسماء الشريفة التي تدل على شرف أصحابها، وقد سماهم الله بها على سبيل المدح لهم، فقال تعالى: { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه.. }(التوبة: من الآية100)، إلا أن هذه الأسماء لما استعملت الاستعمال الخاطئ لتفريق المسلمين وإحياء للعصبية الجاهلية، أنكر ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنكارا شديدا، وقال قولته الشديدة: ( دعوها فإنها منتنة )، وذلك حفاظا على وحدة الصف للمسلمين.. فالإسلام ينبذ العصبية بجميع ألوانها، سواء كانت عصبية تقوم على القبلية، أو الجنس، أو اللون أو غير ذلك...  

عزة الإيمان وذل النفاق

ظهر ذلك في موقف عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول ، لما سمع بما قاله أبوه " لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، فقال لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:  " بلغني أنك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلا فمرني به، وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي على الأرض فأقتله، فأقتل رجلا مؤمنا بكافر فأدخل النار ".. فنهاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال له: (بر أباك، وأحسن صحبته ) ( ابن حبان ).

 فلما وصل المسلمون مشارف المدينة، تصدى عبد الله لأبيه، وقال له: قف والله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالدخول، فأذن له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. فظهر بذلك من العزيز ومن الذليل.. ولقد ضرب عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول ـ رضي الله عنه ـ بهذا الموقف مثالا عمليا للإيمان في أوثق عراه، وهو الولاء والبراء ..

حكمة وصبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ

 قابل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما فعله عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول ، بمثال رفيع في الحكمة والصبر، والعفو وحسن الصحبة، فلو أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو أذن لعبد الله بن عبد الله بن أبي بقتل أبيه لقتله، لكنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له: ( بر أباك وأحسن صحبته ).. فلم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينتقم أو يغضب لنفسه، بل يغضب لله عز وجل..

ثم إن هذا الموقف من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه محافظة على وحدة الصف الداخلية، وعلى السمعة الطيبة، ففرق كبير بين أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، وبين أن يتحدث الناس عن حب أصحاب محمد محمداـ صلى الله عليه وسلم ـ ...

وهكذا كانت هذه الغزوة رغم صغرها من الناحية العسكرية، إلا أن فيها من الدروس والمعاني الكثير، التي ينبغي أن يقف المسلمون معها للاستفادة منها في واقعهم ...

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة