اللغة العربية.. قدرة ومرونة وثراء

1 834

تعد اللغة العربية من أغنى لغات العالم بالمفردات والمترادفات، ولا يدل على مرونة اللغة العربية، واتساعها وشموليتها كثرة مفرادتها ـ التي تعد بمئات الألوف ـ فحسب، ولكن يدل على ذلك أيضا كثرة الروافد، والطرائق التي تغذي اللغة العربية، وتسمح لها بالتوليد والإضافات. كالقياس، والاشتقاق، والنحت، والتعريب، وغيرها.

وهذا يعني أنها لغة مفتوحة للتواصل الدائم على مدى العصور، وأن باب الاجتهاد فيها لم يغلق، ولن يغلق. وقد تحدث اللغويون عن خصائص اللغة العربية وتفردها في جوانب كثيرة، وتفوقها على كثير من اللغات الأخرى في هذه الجوانب، وذلك في دراسات مقارنة متعددة، مما لا يتسع له مقالنا هذا. ولكننا نجد من اللازم أن نتحدث ـ في إيجاز ـ عن مظهرين من مظاهر القدرة الذاتية في اللغة العربية وهما:

ـ دقة الفروق بين كثير من كلمات العربية مما يعتقد كثيرون أنها مترادفة، أي متساوية تماما في المعنى.
ـ الدقة في الاستيعاب، وتعريف المسمى بكل أنواعه التعريف الجامع المانع، الذي لا يترك زيادة لمستزيد، وفي السطور الآتية نلقي الضوء على هذين المظهرين اللذين يمثلان سمتين أساسيتين من سمات اللغة العربية.

أولا: دقة التفريق: ومن أشهر الكتب التي تناولت هذه الظاهرة: كتاب "الفروق اللغوية" لأبي هلال العسكري، ونقدم ـ في السطور التالية ـ قطوفا منه ـ تبين عن هذه القدرة في اللغة العربية:
ـ الفرق بين الصفة والنعت: النعت: لما يتغير من الصفات. والصفة: لما يتغير، وما لا يتغير، فالصفة أعم من النعت.
 ـ الفرق بين الحقيقة والحق: الحقيقة ما وضع من القول موضعه في أصل اللغة، حسنا كان أو قبيحا. والحق: ما وضع موضعه من الحكمة، فلا يكون إلا حسنا.
 ـ الفرق بين الإعادة والتكرار: التكرار: يقع على إعادة الشيء مرة، وعلى إعادته مرات. أما الإعادة: فهي للمرة الواحدة.
 ـ الفرق بين الهجو والذم: الذم: نقيض الحمد، وهما يدلان على الفعل. والهجو: نقيض المدح، وهما يدلان على الفعل والصفة كهجوك الإنسان بالبخل، وقبح الوجه.
وفرق آخر: أن الذم يستعمل في الفعل والفاعل، فتقول: ذممته بفعله، وذممت فعله. والهجو يتناول الفاعل والموصوف دون الفعل والصفة، فتقول: هجوته بالبخل وقبح الوجه، ولا تقول هجوت قبحه وبخله.

 ـ الفرق بين العلم والمعرفة: المعرفة أخص من العلم؛ لأنها علم بعين الشيء مفصلا عما سواه. والعلم: يكون مجملا ومفصلا.
 ـ الفرق بين الجعل والعمل: العمل: هو إيجاد الأثر في الشيء. والجعل: تغيير صورته بإيجاد الأثر فيه.
 ـ الفرق بين البعض والجزء: البعض ينقسم، والجزء لا ينقسم. والجزء يقتضي جمعا، والبعض يقتضي كلا.
 ـ الفرق بين النصيب والحظ. النصيب يكون في المحبوب والمكروه. والحظ ما يكون في الخير.
 ـ الفرق بين الولاية (بفتح الواو) والنصرة (بضم النون): الولاية: النصرة لمحبة المنصور، لا للرياء والسمعة؛ لأنها تضاد العداوة. والنصرة: تكون على الوجهين.
ويرى بعض الباحثين أن أبا هلال العسكري قد أسرف في إبراز هذه الفروق، وحتى لو صح ذلك، فإن ما قدمه يبقى صحيحا في غالبيته.

ثانيا: الدقة في الاستيعاب:
فاللغة العربية وضعت للشيء الحسي ـ بصفة خاصة ـ التسمية الجامعة المانعة، بحيث لا يدخل معها غيرها. ونسوق هنا سطورا من كتاب "الفرق" لابن فارس اللغوي، وأغلبه في تحديد أسماء أعضاء الإنسان والحيوان، وما يتعلق بها:
 ـ باب الشفة: الشفة من الإنسان، وهو من الإبل المشفر، ومن ذوات الحافر: الجحفلة، ، ومن الطائر غير الجارح: المنقار، ومن الجارح: المنسر. ومن الذباب: النقط.
ـ باب الأصوات: صاح الإنسان، وصوت. وعزف الجني. وخارت البقرة،. وبغم الظبي بغاما، وصهل الفرس. وحمحم عند الشعير. والخضيعة صوت يسمع من جوفه، ولا يدري من أين هو، ونهق الحمار... إلخ.
ويرى الأستاذ العقاد ـ رحمه الله ـ في كتابه: "اللغة الشاعرة" أن اللغة العربية فاقت غيرها من اللغات، بما اشتملت عليه من تحديد دقيق لكل ساعة من ساعات الليل، والنهار، والشهور، والفصول، والمواسم وغيرها.
ولا مبالغة فيما ذكره العقاد؛ ففي "فقه اللغة" للثعالبي ـ وهو يتحدث عن "أوائل الأشياء".
الصبح أول النهار: الغسق: أول الليل. الوسمى: أول المطر. البارض: أول النبت. اللعاع: أول الزرع. اللباء: أول اللبن.
السلاف: أول العصير. الباكورة: أولى الفاكهة. البكر: أول الولد. الطليعة: أول الجيش. النهل: أول الشرب. النشوة: أول السكر. الوخط: أول الشيب. النعاس: أول النوم. الزلف: أول ساعات الليل. الزفير: أول صوت الحمار.

وفي ساعات النهار: الشروق، ثم البكور، ثم الغدوة، ثم الضحى، ثم الهاجرة، ثم الظهيرة، ثم الرواح، ثم العصر، ثم القصر، ثم الأصيل، ثم العشى، ثم الغروب.
وساعات الليل: الشفق، ثم الغسق، ثم العتمة، ثم السدفة، ثم الجهمة، ثم الزلة، ثم الزلفة، ثم البهرة، ثم السحر، ثم الفجر، ثم الصبح، ثم الصباح.
وأغلب هذه الكلمات لا تدور حاليا على أقلام الكتاب، وألسنة المتكلمين من الخطباء والمحاضرين، ولكن هذا لا يقلل من قيمتها، ولا ينال من دلالتها على مرونة اللغة العربية واتساعها وشموليتها، وقدرتها الذاتية؛ فقلة توظيف الكلمة لا يقلل من قيمتها، كما أن كثرة دورانها على الألسنة والأقلام لا يكسبها من القيمة ما لا تستحقه.
وما ذكرناه من سمات تكاد العربية تنفرد بها ـ وغيرها كثير ـ تقطع بأن العربية لغة غنية خالدة؛ لأنها ـ مهما تكالب عليها من محن ـ يبقى لها هذا الرصيد الضخم من القوة الذاتية التي تجعلها لغة قادرة في كل الظروف والأزمنة والأحوال.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة