حادثة الإفك دروس وعبر

11 2406

 حاول المنافقون الطعن في عرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالافتراء على عائشة - رضي الله عنها - بما يعرف في كتب السيرة بحادثة الإفك، والذي كان القصد منها النيل من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن أهل بيته الأطهار، لإحداث الاضطراب والخلل في المجتمع الإسلامي، بعد أن فشلوا في إثارة النعرة الجاهلية، لإيقاع الخلاف والفرقة بين المسلمين ..

 وقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث الإفك.. وملخص القصة كما وردت في كتب الحديث والسيرة : أن المنافقين استغلوا حادثة وقعت لأم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ في طريق العودة من غزوة بني المصطلق، حين نزلت من هودجها لبعض شأنها، فلما عادت افتقدت عقدا لها، فرجعت تبحث عنه، وحمل الرجال الهودج ووضعوه على البعير وهم يحسبون أنها فيه، وحين عادت لم تجد الركب، فمكثت مكانها تنتظر أن يعودوا إليها بعد أن يكتشفوا غيابها، وصادف أن مر بها أحد أفاضل أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو صفوان بن المعطل السلمي ـ رضي الله عنه ـ ، فحملها على بعيره، وأوصلها إلى المدينة.. فاستغل المنافقون هذا الحادث، ونسجوا حوله الإشاعات الباطلة، وتولى ذلك عبد الله بن أبي بن سلول، وأوقع في  الكلام معه ثلاثة من المسلمين، هم مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش .. فاتهمت ـ أم المؤمنين ـ عائشة ـ بالإفك..

وقد أوذي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما كان يقال إيذاء شديدا، وصرح بذلك للمسلمين في المسجد، حيث أعلن ثقته التامة بزوجته وبالصحابي ابن المعطل السلمي ، وحين أبدى سعد بن معاذ استعداده لقتل من تسبب في ذلك إن كان من الأوس، أظهر سعد بن عبادة معارضته بسبب كون عبد الله بن أبي بن سلول من قبيلته، ولولا تدخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتهدئته للصحابة من الفريقين لوقعت الفتنة بين الأوس والخزرج ..

ومرضت عائشة ـ رضي الله عنها ـ بتأثير تلك الإشاعة الكاذبة، فاستأذنت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الانتقال إلى بيت أبيها، وانقطع الوحي شهرا، عانى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ خلاله كثيرا، حيث طعنه المنافقون في عرضه وآذوه في زوجته، ثم نزل الوحي من الله موضحا ومبرئا عائشة ـ رضي الله عنها ـ : { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم . لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين . لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم . إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم . ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم . يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين .  ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم . إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم } (النور: 11-20)...

وتوالت الآيات بعد ذلك تكشف مواقف الناس من هذا الافتراء، وتعلن بجلاء ووضوح، براءة أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ  التي أكرمها الله فمنحها الجائزة والتعويض لصبرها على محنتها، وأنزل في براءتها، آيات من القرآن الكريم، تتلى إلى يوم الدين ..

 لقد كادت حادثة الإفك أن تحقق للمنافقين ما كانوا يسعون إليه من هدم وحدة المسلمين، وإشعال نار الفتنة بينهم، ولكن الله سلم، وتمكن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحكمته ـ وهو في تلك الظروف الحالكة ـ أن يجتاز هذا الامتحان الصعب، وأن يصل بالمسلمين إلى شاطئ الأمان..

وهذه الحادثة مع ما فيها من آلام شديدة، تركت وراءها العديد من الحكم الجليلة، والفوائد الكثيرة، التي ينبغي الاستفادة منها في واقعنا كأفراد ومجتمعات، منها :

أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يخرج بنبوته ورسالته، وفضله وعلو منزلته، عن كونه بشرا، فلا ينبغي لمن آمن به أن يتصور أن النبوة قد تجاوزت به حدود البشرية، فينسب إليه ما لا يجوز نسبته إلا إلى الله وحده، قال تعالى: { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } (الكهف:110) .

كما أظهرت هذه الحادثة أن الوحي ليس شعورا نفسيا أو إلهاما، كما أنه ليس شيئا خاضعا لإرادته ورغبته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، مما يدعيه محترفو التشكيك في الإسلام والتلبيس على المسلمين، من أعداء الإسلام ومن سار وراءهم، إذ لو كان الأمر كذلك، لكان من السهل عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن ينهي هذه المحنة التي آذته وآذت زوجته والمسلمين من يوم وقوعها، لكنه لم يفعل، لأنه لا يملك ذلك.. فماذا كان يمنعه ـ لو أن أمر القرآن بيده ـ أن ينطق بهذه الآيات من بداية هذا الإفك وهذه الإشاعة الكاذبة، ليحمي بها عرضه، ويقطع ألسنة الكاذبين؟، ولكنه ما كان ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله، قال الله تعالى: { ولو تقول علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين. ثم لقطعنا منه الوتين. فما منكم من أحد عنه حاجزين } (الحاقة47:44).. وهكذا شاء الله أن تكون هذه المحنة دليلا كبيرا على بشرية الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونبوته في وقت واحد ..

ومن الحكم والفوائد المترتبة على هذه الحادثة، تشريع حد القذف وأهميته في المحافظة على أعراض المسلمين، فعندما وقعت حادثة الإفك أراد الله - عز وجل - أن يشرع بعض الأحكام التي تساهم في المحافظة على أعراض المؤمنين..

ومن المعلوم أن الإسلام حرم الزنا، وأوجب العقوبة على فاعله، وحرم أيضا كل الأسباب المؤدية إليه، من تبرج وسفور، واختلاط ونظرة .. ومنها إشاعة الفاحشة، ومن ثم حرم الإسلام القذف، وأوجب على من اتهم عفيفا أو عفيفة, بالزنا ـ وهم منه براء ـ حد القذف، وهو الجلد ثمانين جلدة وعدم قبول شهادته إلا بعد توبته توبة صادقة نصوحا، وفي ذلك صيانة وحفظ  للمجتمع من أن تشيع فيه ألفاظ الفاحشة، لأن كثرة الحديث عن الفاحشة وتردادها في الألسن يهون أمرها لدى سامعيها، ويجرئ ضعفاء النفوس على ارتكابها، أو رمي الناس بها.. وفي ذلك تربية للمجتمع الإسلامي الأول ليكون نموذجا للمجتمعات بعد ذلك..

  ولقد ظهر في هذه الحادثة فضل عائشة ـ رضي الله عنها ـ، فقد برأها الله من الإفك بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، يتعبد المسلمون بتلاوته, قال تعالى: { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم } (النور: 11)، فكم ارتفعت منزلتها ـ رضي الله عنها ـ بذلك، وقد كانت تقول كما روى البخاري : " ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى"، ومن ثم فمن اتهمها بعد ذلك بما برأها الله به، فهو مكذب لله، ومن كذب الله فقد كفر ..

 كما أكدت هذه المحنة على  وجوب التثبت من الأقوال قبل نشرها، والتأكد من صحتها, حتى لا يقع الإنسان في الكذب والظلم، ويكون سببا في نشر الإشاعات والفواحش، قال تعالى: { ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم } (النور:16 ).

ومن الفوائد الهامة من هذه الحادثة، التوقف عند أمر الله ـ عز وجل ـ بالطاعة، وإن كانت مخالفة لرغبة الإنسان وهواه، وعدم ترك النفقة على الأقارب والفقراء وإن أساءوا، والحث على العفو والصفح عمن أساء إليك .. ظهر ذلك في موقف أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ، الذي كان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره ، فلما أنزل الله براءة عائشة ـ رضي الله عنها ـ قال أبو بكر :" والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال في عائشة ، فأنزل الله تعالى: { ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم } (النور:22)،  فقال أبو بكر : "بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي"، فأرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه..  

لقد كانت حادثة الإفك حلقة من سلسلة حلقات الإيذاء والمحن التي لقيها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكان من فضل الله ورحمته أن كشف زيفها وبطلانها، وأبقى دروسها وفوائدها، لتكون عبرة وعظة للأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. وكل ذلك من الخير الذي كشفه الله في ثنايا هذا الحادث، مع ما فيه من ابتلاء وآلام، كما قال الله تعالى: { لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم } (النور: من الآية11)...

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة