التربيــة بالأمـــاني

5 1286

خبرنا أهل الاختصاص أن للتربية أنواعا عدة، فهناك ما يعرف بالتربية بالملاحظة، وهناك التربية بالعادة، وهناك التربية بالإشارة، وهناك التربية بالموعظة، وهناك التربية بالترهيب والترغيب، وهناك التربية بالقدوة، وهناك التربية بالأهداف، وهكذا. ولكن هل سمعت من قبل عما يعرف بـ "التربية بالأماني"!

آفة خطيرة:
إن "التربية بالأماني" آفة من الآفات الخطيرة التي تسربت إلى واقعنا - أفرادا وأمما وجماعات - كما يتسرب النوم إلى جفوننا.. متى؟ وكيف؟ لا أحد يعرف.
والحقيقة أن هناك قطاعات غير قليلة من أبناء المسلمين تمارس هذا النوع من التربية باقتدار.

فمثلا كل أب يتمنى أن يتحلى أولاده بكل الصفات الحميدة، ويكونوا كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي. وكل أم تتمنى أن تتحلى بناتها بالعفاف والاحتشام والأدب والعفة  والطهارة،  ويصبحن كخديجة وعائشة وزينب وأم كلثوم ورقية وفاطمة الزهراء.

وكل مدير مدرسة يتمنى أن يتحلى طلاب مدرسته بكل الفضائل ومكارم الأخلاق؛ ليصبح منهم في المستقبل: العالم والمفكر والمعلم والأديب والمهندس والطبيب.

وكل إمام مسجد يتمنى أن يتحلى رواد مسجده بالآداب والسلوكيات الإسلامية الصحيحة.

وكل مدير شركة يتمنى أن يتحلى العاملون في شركته بالصدق والإخلاص، المصحوبين بالهمة العالية؛ من أجل أن يحققوا معدلات الإنجاز المستهدفة.

وكل   رئيس دولة يتمنى أن يتحلى أبناء شعبه بأخلاق الفرسان، ويكونوا نماذج تحتذى في الانضباط والتفاني والعطاء وحسن السير والسلوك.

اعتراض:
وحقيقة الأمر أن كل هذه الأماني لا غبار عليها ولا اعتراض، ولكن الاعتراض ينصب على أننا نتمنى بلا حركة ولا فعل، نتمنى بلا تربية ولا تكبير، نتمنى بلا تعهد ولا متابعة لأمانينا وأحلامنا، وما أشبه هذا الذي يمارس "التربية بالأماني" بهذا الذي تمنى أن يرزقه الله الولد من غير جماع! أو بهذا الذي تمنى أن يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب العلم! أو بهذا المسكين الذي تمنى الفوز بالدرجات العلى والنعيم المقيم، من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى!

خطورة التربية بالأماني:
إن خطورة "التربية بالأماني" تكمن في أن ممارسيها يرسمون صورا وهمية، وأحلاما وردية، وطموحات غالية فقط بالقول دون الفعل، وتكمن خطورتها أيضا في أن ممارسيها ينظرون إلى من يربونهم - أو من هم تحت إمرتهم - وهم يرتدون نظارات الأحلام الوردية تارة، أو وهم يقفون على تلال الأماني العالية تارة أخرى.

ويبقى أخطر جوانب هذا النوع من التربية في أن ممارسيها بمرور الوقت يصدقون أوهام أمانيهم، ويستمرون في إهمال برامج التربية الحقيقية، ويتعلقون بالحبال الواهية للتربية بالأماني، حتى تأتي لحظة المكاشفة، ويفاجأ الجميع بكوارث أخلاقية واجتماعية من النوع الثقيل، سواء على المستوى الشخصي أو المستوى العام.

أليسوا أبناء دعاة؟!
وإذا كنا نحذر أنفسنا قبل عموم الناس من خطورة هذا النوع من التربية، فإنه من الواجب اللازم علينا أن نذكر العاملين في حقل الدعوة إلى الله - عز وجل - بطول الأرض وعرضها بخطورة هذا الأمر. فهناك من بين هؤلاء الأفاضل من يمارس "التربية بالأماني" بدون قصد، ففي الوقت الذي يحترقون فيه من أجل إضاءة الطريق أمام الآخرين، وفي الوقت الذي تأخذ الدعوة جل وقتهم، وفي الوقت الذي تتكاثر عليهم مشاكل ومشاغل الدعوة، قد ينسى بعض هؤلاء الدعاة نصيب أبنائهم من التربية الحقة، ويستعيضون عنها بممارسة "التربية بالأماني". فترى بعض هؤلاء الأجلاء يقدمون على ممارسة هذه التربية وهم مرتكزون على وهم أن أبناء الدعاة لا يرتكبون مثل هذا الذنب، أو يقعون في هذا المحظور، أو أنهم لا يمكن أن يفعلوا ما يفعله أقرانهم من أبناء العامة من أخطاء.
وكل هذا أماني كأماني هذا الذي يملك أرضا للزراعة ويتمنى أن يعود عليه نفعها دون حرث أو بذر أو ري!

إن مثل هذه الأماني التربوية لا يهبط بها من علياء الخيال إلى واقع الحال إلا وجبات التربية الحقيقية المتوالية، فكما أن الأماني لا تسدد الديون، فإنها أيضا لا تربي، ولا تهذب، ولا تحل مشاكل.

بذل جهد:
إن الأحلام الكبيرة والأهداف العظيمة لا يمكن أن تتحقق بالأماني، ولكنها تحتاج إلى تربية حقيقية دائمة، وتعهد حقيقي مستمر.

فكل حلم نحلمه، أو أمنية نتمناها، على الصعيد الشخصي أو على الصعيد العام، صغر هذا الحلم أو عظم، فإنه يحتاج إلى جهد مبذول، وعمل مدروس، وبرامج هادفة، وخطط محكمة، ووسائل ناجعة؛ أخذا بالأسباب، وإعذارا إلى الله - عز وجل - من أجل تحقيق هذه الأحلام الخاصة أو تلك الأهداف العامة.

بناء وهدم:
إن التربية ليست سوى عملية من البناء والهدم الدائمين، بناء للقيم الإيجابية، وهدم للقيم السلبية التي قد يكتسبها الإنسان أثناء رحلته في الحياة، وهي تبدأ منذ الميلاد وحتى لحظة الممات دون توقف ولا كلل ولا ملل، وهي فرض لازم في حق الأفراد، والمؤسسات، والجماعات، والأمم والشعوب، سواء بسواء.

ويجب ألا يحول بيننا وبينها لا مشاكل ولا مشاغل، ولا زحمة عمل ولا ترتيب أولويات ولا غيره، فلا يوجد أولوية تسبق التربية ولا تتقدم عليها إلا في أدبيات أصحاب العقول الصغيرة.

الخروج من الكبوة:
إننا إذا أردنا أن نخرج من كبوتنا، فلا بد من ممارسة التربية الفعلية، وليست "التربية بالأماني" فالتربية لم تعد بالنسبة لنا خيارا، بل أضحت ضرورة وإلزاما. 

وهذا "إدمون ديمولان" العالم الاجتماعي الفرنسي الشهير، الذي ترك الطب واشتغل بأمور التربية، فلما سئل عن ذلك كان جوابه: "وجدت بالاستقراء الدقيق أن معظم أسباب العلل الإنسانية الجسمية والنفسية يرجع إلى نقص في التربية، فآثرت أن أستأصل الداء من جذوره باستئصال سببه الأول، على أن أقضي الوقت في علاج ما ينجم عن هذا السبب، والوقاية خير من العلاج، ولا أشك أني بذلك أقوم بخدمة أعظم للإنسانية بقدر ما بين طب الأمم وطب الأفراد".

فالبيت لا بد وأن يربي، والمدرسة لا بد وأن تربي، والمسجد لا بد وأن يربي. والنادي لا بد وأن يربي. والشركة لا بد وأن تربي. والإعلام لا بد وأن يربي. والدولة بكل ما تملك لا بد وأن تربي.
أما أن نظل نمارس "التربية بالأماني"، فلا ننتظر غير المزيد من الكوارث   والنكبات، سواء على المستوى الشخصي أو المستوى العام.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة