الراغبون عن سنة المصطفى

1 1649

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادته، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- ؟، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) " متفق عليه واللفظ للبخاري .

وفي رواية مسلم : "فحمد الله وأثنى عليه، فقال: ( ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ".

معاني المفردات

تقالوها: اعتبروها قليلة .

أبدا: دائما من غير انقطاع .

الدهر: أي أواصل الصيام من دون توقف .

 أرقد: أنام .

رغب عن سنتي: أي أعرض عنها .

تفاصيل الموقف

بزغ من الأفق البعيد ركب أقبلوا على المدينة والسعادة تملأ قلوبهم، والشوق يذكي عزائمهم، غير مبالين بفيح الصحراء أو حر الرمضاء، ولا شاعرين ببعد المسافة أو طول الرحلة، وحق لهم ذلك فقد أوشكوا على الوصول إلى مقصدهم وتحقيق هدفهم.

إنهم ثلاثة، جمعهم الإيمان وألف بين قلوبهم، ووصلتهم أنوار الرسالة، وتوالت عليهم الأخبار الصادقة عن ذلك النبي العظيم، كم حدثوهم عن تواضعه وحلمه ووفائه، وكم أخبروهم عن إخلاصه ورحمته ووفائه، وكم أفاضوا في ذكر فضائله وأفضاله، وخصائصه وأخلاقه، وشمائله وصفاته.

كم أرهفوا السمع وأعملوا الفكر وأطلقوا عنان الخيال، ولكن من بعيد!، وآن الأوان كي يقتربوا من منبع ذلك النهر المتدفق، ليرتووا من أصله، ويرتشفوا من هديه، بل حان الوقت ليروا رأي العين سمو الأنبياء وعظمة الأتقياء، فيرصدوا حركاتها وسكناتها، وخطاها وأفعالها، وسيرتها وسريرتها.

ها هي المدينة بشوارعها وحواريها، وأسواقها وتجمعاتها، وبيوتها وبساتينها، يمشون على ثراها بأرجلهم في الوقت الذي تكاد أن تطير قلوبهم غبطة وسرورا باللقاء المرتقب مع أسمى ما عرفت البشرية من العظمة والبهاء، والجلال والجمال.

وما بين سؤال واستفسار، وانتقال من موضع إلى آخر، إذ وصلوا أمام حجرات بيت النبي –صلى الله عليه وسلم-، فطرقوا الباب على أمل أن يفتح لهم النبي عليه الصلاة والسلام فيكحلوا أعينهم بوجه طالما حلموا به، ويطربوا أسماعهم بصوت لم يزالوا يشتاقون إليه، فإذا بالخبر يأتيهم من أحدى زوجات النبي عليه الصلاة والسلام أنه غير موجود، وأنه عائد ولابد.

لحظات الانتظار مزعجة، والشوق إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- يتنامى، والرغبة في معرفة أحواله تتعاظم، فلم يستطع أولئك الركب أن يكتموا أسئلتهم عن أمهم وأم المؤمنين جميعا، ليعرفوا الحقيقة عن كثب، ويقفوا على حال النبي عليه الصلاة والسلام مع ربه في خلوته ومحرابه، ومن يعلم ذلك إن لم تعلمه زوجته وألصق الناس به؟

وهكذا توالت الأسئلة تتلوها الإجابات، في حوار تفصيلي دار من وراء حجاب، لكن ما سمعوه لم يشف غليلهم، ولم يكن بالقدر الذي تخيلوه، فلقد ظنوا أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قائم طيلة الليل سارد للصوم جميع أيامه، وأن هذا المستوى من العبادة لهو الخليق بمن كان أحب الخلق للخالق!

لقد قالوا: " أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم- ؟، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" وكأنهم يريدون القول أن النبي –صلى الله عليه وسلم- ليس بحاجة إلى إجهاد النفس بالعبادة حيث ضمن المغفرة من الله، أما هم: فينبغي عليهم أن يجتهدوا أكثر من ذلك؛ لذا قرر الأول أن يصلي الليل أبدا، والثاني أن يصوم أيامه كلها ولا يفطر، وأما الثالث فاختار أن يعتزل النساء فلا يتزوج!

ويصل الخبر إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- من أهل بيته بما قالوا، فينطلق إليهم مسرعا، ويتأكد مما قالوا، ثم يحدثهم بالمنطق السديد والعقل الرشيد:  ( أما والله أني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) ؛ وحتى يعمم التوجيه وقف في الناس واعظا وأبلغهم ذات الرسالة المطلوبة من التوسط المطلوب في العبادة، بعيدا عن الغلو والإجحاف.

إضاءات حول الموقف

أعظم ما نستشرفه من هذا الموقف العظيم: التحذير من الغلو في الدين، والتنطع في تطبيقه، والتشدد في فهمه؛ وذلك لمجافاته التامة لحقيقة الإسلام وجوهره القائم على اليسر والسماحة، والتوسط والاعتدال، فكان النهي عن هذا المسلك لئلا نهلك كما هلك من كان قبلنا من الأمم السابقة، قال الله عز وجل: { قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} (المائدة:77)، وصح عن النبي –صلى الله عليه وسلم قوله: ( يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين؛ فإنه أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين ) رواه ابن ماجة .

وقد خشي النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يكون مثل هذا الإفراط والتنطع سببا في تشديد الله على عباده، فقد جاء عنه قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم؛ فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم فى الصوامع والديار {رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم} (الحديد:27) ) رواه أبو داوود .

ومن مضار هذه المغالاة أن صاحبها غالبا ما يصيبه استثقال العبادة والملل من المداومة عليها، ثم يؤول به الأمر إلى الانقطاع عن العبادة تماما، فيكون حاله كحال المسافر الذي أجهد راحلته بالسفر ولم يعطه فرصة للراحة، حتى خارت قواه ولم يعد يستطيع المواصلة، فلا هو بالذي أبقى على راحلته، ولا هو بالذي بلغ مراده، يقول الحافظ ابن حجر : " لا يتعمق أحد في الأعمال الدينيه ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب".

والمطلوب تحقيق الموازنة بين العبادة وبين حاجات النفس، بحيث يقبل المؤمن على الدين برفق وتمهل، فيعطي نفسه فرصة اعتياد هذه التكاليف وتحملها دون سآمة أو ملل، ويستغل فترات الإقبال بالطاعة، والفتور بالراحة، ويكون كالشجرة التي تنمو صاعدة في ثقة وطمأنينة، فيبلغ مراده ويحقق مطلوبه.

لكن يجدر التنبيه هنا إلى ما يقع به بعض العوام من خلط في المفاهيم، وذلك حينما يدخلون في التنطع المذموم كل من كان متمسكا بآداب الإسلام وتعاليمه، وأوامره ونواهيه، ومعلوم أن الغلو هو التجاوز في الحد في القول والفعل، بينما حال أهل الاستقامة هو لزوم الحد المطلوب، وبينهما فرق.

ونختم بجملة من الفوائد، منها: بيان حب الصحابة لرسول الله – صلى الله عليه وسلم-، وحرصهم على تتبع مواطن الخير والسعي في تحقيقها، وأدب النبي –صلى الله عليه وسلم- حينما لم يذكر أسماء القوم في خطبته واكتفى بقوله: ( ما بال أقوام) ، والترغيب بالنكاح وأفضليته خصوصا للقادرين عليه.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة