ـ بنو قينقاع ـ من صفحات اليهود

5 2297

 لما رأى اليهود بالمدينة أن الله قد نصر المؤمنين نصرا مؤزرا في معركة بدر، وصارت لهم عزة وهيبة في قلب القاصي والداني، اغتاظت قلوبهم، وجاهروا بالبغي والأذى .. وكان أعظمهم حقدا وأكبرهم شرا يهود بني قينقاع، الذين كانوا يسكنون داخل المدينة في حي باسمهم، وكانوا صاغة وحدادين وصناعا للأواني، ولأجل هذه الحرف توفرت لكل رجل منهم آلات الحرب، وكان عدد المقاتلين فيهم سبعمائة، وكانوا أشجع يهود المدينة، وهم أول من نقض العهد والميثاق من اليهود .

وقد جمعهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في سوقهم بالمدينة ونصحهم، ودعاهم إلى الإسلام، وحذرهم أن يصيبهم ما أصاب قريشا في بدر فلم يبالوا، وأخذوا يتحينون الفرصة لإيذاء المسلمين والاعتداء عليهم ..

روي ابن هشام في سيرته: " أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها(ما يجلب للسوق لبيعه)،  فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ـ وهي غافلة ـ فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ـ وكان يهوديا ـ، فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع " .

وحينئذ  ظهر بجلاء غدرهم وخيانتهم، فنبذ إليهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عهدهم، كما أمره الله تعالى بقوله: { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين }(لأنفال:58)، وسار متوجها إليهم على رأس جيش من المهاجرين والأنصار وحاصرهم، وذلك يوم السبت للنصف من شوال من السنة الثانية للهجرة، وكان الذي حمل لواء المسلمين يومئذ حمزة بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ، واستخلف - صلى الله عليه وسلم - على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر العمري ، واستمر الحصار خمس عشرة ليلة، فوقع اليهود في حيرة من أمرهم، بعد أن قطع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنهم كل مدد، حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رقابهم وأموالهم ونسائهم وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا .

وعند ذلك مارس عبد الله بن أبي بن سلول دوره المعروف بالنفاق، فقد روى ابن إسحاق وابن هشام : " أن بني قينقاع أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وحاربوا فيما بين بدر وأحد، فحاصرهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى نزلوا على حكمه، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول، حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد أحسن في موالي - وكانوا حلفاء الخزرج -، قال: فأبطأ عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال: يا محمد أحسن في موالي، قال: فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: أرسلني، وغضب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم قال: ويحك أرسلني، قال: لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر، قال: فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم ـ: هم لك "  .  فأنزل الله تعالى قوله: { فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين } (المائدة:52) ..

 وأمر بهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يرحلوا عن المدينة، وتولى أمر إجلائهم عبادة بن الصامت ـ رضي الله عنه ـ ، فلحقوا بأذرعات(بلدة بالشام)، وأعلن عبادة ـ رضي الله عنه ـ براءته من حلفائه اليهود لمحاربتهم المسلمين، فقال: يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله .. وقد أنزل الله ـ سبحانه ـ في موالاة عبد الله بن أبي لليهود، وبراءة عبادة بن الصامت منهم قرآنا، فقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين }(المائدة:51) ..

وهكذا خرج يهود بني قينقاع من المدينة صاغرين، قد ألقوا سلاحهم، وتركوا أموالهم غنيمة للمسلمين، وهم كانوا من أشجع يهود المدينة وأشدهم بأسا، ومن ثم لاذت القبائل اليهودية الأخرى بالصمت والهدوء فترة من الزمن، بعد هذا العقاب الرادع ليهود بني قينقاع، وسيطر الرعب على قلوبها..

قال ابن حجر : " وكان الكفار بعد الهجرة مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ثلاثة أقسام، قسم وادعهم على أن لا يحاربوه ولا يمالؤوا عليه عدوه، وهم طوائف اليهود الثلاثة قريظة والنضير وقينقاع، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة كقريش، وقسم تاركوه وانتظروا ما يؤول إليه أمره كطوائف من العرب، فمنهم من كان يحب ظهوره في الباطن كخزاعة وبالعكس كبني بكر، ومنهم من كان معه ظاهرا ومع عدوه باطنا  وهم المنافقون، فكان أول من نقض العهد من اليهود بنو قينقاع، فحاربهم في شوال بعد وقعة بدر، فنزلوا على حكمه، وأراد قتلهم فاستوهبهم منه عبد الله بن أبي ـ وكانوا حلفاءه ـ فوهبهم له، وأخرجهم من المدينة إلى أذرعات(بلدة بالشام) " ..

 ومن غزوة بني قينقاع يظهر لنا مدى عزة وكرامة المسلم، فقد سار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعه أصحابه في جيش كامل لينصر امرأة مسلمة نيل من حجابها، ورجلا أريق دمه، فالمسلم أخو المسلم كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، و من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما، ستره الله يوم القيامة )( البخاري ) .

قال ابن حجر ( ولا يسلمه ): " أي لا يتركه مع من يؤذيه ولا فيما يؤذيه، بل ينصره ويدفع عنه، وهذا أخص من ترك الظلم، وقد يكون ذلك واجبا وقد يكون مندوبا بحسب اختلاف الأحوال ..".

فالمسلمون جميعا أمة واحدة، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم .. ) ( أبو داود )..

لقد كانت غزوة بني قينقاع في جملتها دلالة واضحة على مدى ما في طبيعة اليهود من غدر وخيانة، وأنهم لا تروق لهم الحياة مع من يجاورونهم أو يعاهدونهم إلا بأن يبيتوا لهم شرا، أو يدبروا لهم غدرا، فاليهود هم اليهود، نقضة للعهود حتى مع الأنبياء، وفي كل زمان ومكان حالهم مع المسلمين حقد وحسد، وغدر وإيذاء، ومع ذلك هم أشد ما يكون من الجبن والخوف عند الحروب، فلا يقاتلون إلا إذا كانوا في قلاع حصينة أو قرى محصنة، كما قال الله عنهم: { لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } (الحشر: 14) ..

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة