التدين الفردي والتدين الجماعي

0 869

يتكون المجتمع المسلم كما تتكون سائر المجتمعات البشرية من أفراد: هم فلان وفلان وفلان. لكن الله - تعالى - يريد لهؤلاء الأفراد أن يأتلفوا؛ لتتكون منهم جماعة، وأن يكونوا أمة من دون الأمم؛ ولهذا فإنه - سبحانه - كما شرع  لهم شرائع يعملون بها باعتبارهم أفرادا، شرع لهم شرائع تجعل منهم جماعة ويعملون بها باعتبارهم أمة متميزة.

من الشرائع الفردية ما يلتزم به الإنسان حتى لو وجد نفسه وحيدا في جزيرة نائية؛ فهو يظل يؤمن بالله - تعالى - وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، ويعمل بما استطاع من أركان الإسلام؛ فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيم الصلاة، ويصوم رمضان، بيد أنه لا يستطيع أن يؤتي زكاة ولا أن يحج.

لكن المسلم إذا وجد نفسه في جماعة ازدادت واجباته الفردية؛ فهو يزكي ماله، ويحج البيت إن استطاع إليه سبيلا، وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويفعل كل ما شرع الله له بقدر استطاعته؛ فالله - تعالى - شرع للمسلمين شرائع جماعية يعملون بها كما يعملون بتلك الشرائع الفردية بقدر استطاعتهم.

وإن كثيرا من المتدينين في عصرنا - ولا سيما من تأثر منهم بالثقافة الغربية - صـاروا يحصـرون الدين في الشـرائع الفردية ولا يهتمون كثيرا بالشرائع الجماعية؛ فترى الواحد منهم حريصا على أداء الصلاة وحج بيت الله، بل تراه يسأل - مثلا - عن تفاصيل نوافل الحج والعمرة ومكروهاتها، ثم تراه بعد ذلك غافلا كل الغفلة عن كثير من الشرائع التي لا يكون المسلمون جماعة مسلمة إلا بها؛ فتراه غير مهتم بمدى إسلامية الحكم الذي تحكم به بلاده، ولا بمـــدى إسلامية الجمــاعة أو الحزب الذي ينتمي إليه، وترى كثيرا ممن يسكن منهم في ديار الغرب الديمقراطية فرحا بجعلها له مواطنا كسائر المواطنين؛ يمكن أن ينافس فيها حتى على رئاسة الدولة، غافلا عن أنه لا يكون رئيسا إلا باعتباره مسلما يحصر دينه في حياته الخاصة. وأما الشرائع الجماعية فإنه لا يستطيع الالتزام بها؛ لأنها تتعارض مع دساتير الدولة العلمانية وقوانينها وأعرافها وقيمها.

إن الواجب على المسلمين أن يكونوا جماعة وهم لا يكونون جماعة مسلمة إلا إذا عملوا بتلك الشرائع الجماعية.

وأول ما يجب على المسلمين ليكونوا جماعة مسلمة أن يكون لهم رأس يبايعونه على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وقد عرف الصحابة الكرام خطورة هذا الأمر فاجتمعوا لاختيار خليفة يكون لهم رأسا ينتظم به أمرهم حتى قبل أن يدفنوا رسولهم - صلى الله عليه وسلم -؛ لقد عرفوا خطورة هذا الأمر بما علموا من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي منها حديث ابن عمر  - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية[ رواه مسلم]، والمقصود بالميتة الجاهلية أنها كميتة الجاهليين؛ (فإنهـم لم يكن لهم إمـام يجمعهم ولا جمـاعة تعصمهم؛ واللـه - تعالى - بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - وهداهم به إلى الطاعة والجماعة)[راجع منهاج السنة النبوية].

إذن فمن البدهي أن رأس المسلمين يجب أن يكون واحدا منهم، وإذا حدث أن تأمر عليهم ثم طرأ عليه الكفر وكانوا قادرين على إزالته بالقوة وجب عليهم أن يزيلوه؛ فعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله - تعالى - فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم[ رواه البخاري ومسلم].

فإذا لم يجز للمسلمين أن يستمروا تحت إمرة حاكم كان في بداية أمره مسلما ثم طـرأ عليه الكفـر بعـد مبايعتـه؛ فمـن باب أولى أن لا يجوز لهم أن يحكموا فيهم من كان في أصله كافرا.

لكننا نسمع في أيامنا هذه من يقول (باسم الإسلام): إن رأس الدولة المسلمة يمكن أن يكون شخصا غير مسلم؛ ولذلك فلا بأس من أن يترشح للحصول على هذا المنصب.

إن من أغرب الحجج التي سمعتها لتسويغ هذه الدعوى أن هذا في الحقيقة لن يكون!!

لقد سمعت مثل هذا الكلام من سنين طويلة.. وكنت أقول لإخواننا في الرد على مثل هذا التحايل: أإذا ظننت بإنسان ظنا حسنا وأنه لن يشرب الخمر مهما أغري بشربها؛ فهل يجوز لك أن تقول: إنه يجوز له أن يشربها؟ إنك تكون بهذا القول كافرا؛ لأنك أبحت شيئا حرمه الله، سواء علمت أنه سيقع أو لم تعلم.
وكنت أقول لهم: لم تظنون أن المسلمين لن ينتخبوا شخصا غير مسلم؟ إنهم لا يفعلون ذلك لأنهم يعتقدون أنه أمر غير جائز، بل ربما عرف بعضهم أنه كفر؛ فإذا ما قلنا لهم باسم الإسلام: إن هذا الأمر جائز فما الذي يمنعهم من أن ينتخبوه، ولاسيما إذا زين لهم أنه ستكون في انتخابه مصالح دنيوية كرضا الدول الغربية عن بلدهم واستعدادها لمساعدتهم؟

إذا قلت للذين يدعون مثل هذه الدعاوى: إن رئيس جماعة سلفية يمكن أن يكون صوفيا مبتدعا أو العكس، أو أن داعية إلى الشيوعية يمكن أن يكون رئيس حزب ديمقراطي سخروا من كلامك هذا وأنكروه، لكنهم لا ينكرون أن يكون رأس المسلمين غير مسلم. أتدرون لماذا؟ لأنهم لا ينظرون إلى المسلمين باعتبارهم جماعة، بل يرونهم كوما من الأفراد الذين لا رابطة تجمعهم إلا رابطة الوطن التي تجمع بينهم وبين سائر المواطنين من أصحاب العقائد الأخرى. لكن هذا هو عين العلمانية؛ فالذي ينكر العلمانية ثم يقول: إن رأس المسلمين يمكن أن يكون غير مسلم يناقض نفسه.

إن الذي ينساه كثير من الناس هو أن العلمانية لا تمنع مجالسها التشريعية من الأخذ ببعض التشريعات الدينية، إنما تمنع أن تسن باعتبارها دينا؛ فحتى لو سنت الدولة قوانين، مثـل منـع الربا أو شـرائع الأحوال الشخصية فإن هذا وحده لا يخرجها عن علمانيتها؛ كما أنه لا يجعلها دولة مسلمة ما دام هـذا الأخـذ ليـس مبنيـا على مبـدأ يلزم الـدولة بالإسلام وأن لا تخالف شيئا من أحكامه ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.

ثم إذا جاز أن يكون رأس الدولة غير مسلم، فمن باب أولى أن يجوز انتخاب غير المسلمين للمجالس التشريعية. لكن هذا سيؤكد كون الدولة دولة علمانية.

إنه لا يمكن أن تكون الدولة إسلامية ويكون المشاركون في إصدار قوانينها غير مسلمين.
ــــــــــــــــــــ
د. جعفر شيخ إدريس

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة