- اسم الكاتب:الأستاذ: عبدالسلام البسيوني
- التصنيف:من أعلام الدعوة
ياااااااه.. ويطرق الموت مرة ثانية بابي ليخطف أحبتي.. يا رب إلى فردوسك الأعلى!
لم أفق من موت العلامة الشيخ الدكتور عبد العظيم الديب، حتى مات العالم الجليل الدكتور أحمد العسال، ثم ثلث الموت بالأصولي النحرير د. عمر عبد العزيز، عليهم جميعا رحمات الله ورضوانه!
وها هو يقبض بيده الجبارة على قلبي باختيار العالم الرباني الجليل الأستاذ الدكتور المربي السمح البسام القرآني الرباني المربي الداعية الشيخ حسن عيسى عبد الظاهر عن ثمانين سنة وسنتين، قضى أواخرها في مرض طويل، أرجو أن يكون له ممحصا ومخلصا..
وهؤلاء كلهم - فيما رأيت وجربت وعلمت - كانوا نماذج للحكمة، والعلم، والمنهجية، وفهم روح الإسلام، ومعرفة الواقع، والسماحة، والرفق، والرحمة، والعذر، والدفع بالتي هي أحسن، أحسبهم والله تعالى حسيبهم، ولا أزكيهم، ولا أزكي على الله أحدا!
ربما كان العلامة حسن عيسى عبد الظاهر غير معروف عند الأجيال الجديدة من المصريين؛ بسبب وجوده في قطر أستاذا في كلية الشريعة، وإقامته هنا منذ عقود، لكنه كان أزهريا صميما، ممن خدموا الأزهر، وعملوا في أعلى مراتب التوظيف فيه، بجانب كبار علمائه، وتعرف على حسن البنا والغمراوي والأودن والبهي الخولي ودراز وعبد الحليم محمود وأبو زهرة وغيرهم من الأكابر، كما تولى رحمه الله مناصب عدة منها: رئاسة لجنة الحديث بمجمع البحوث الإسلامية، وعمل على إخراج كنوز الكتب الإسلامية..
شافه الصديق الإعلامي القدير محمد صبرة الذي استفدت من حواره، فقال: عندما كنت في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر شاركت في مشروع ضخم هو موسوعة السنة النبوية، الذي أسفر عن إصدار كتاب الجامع الكبير للإمام جلال الدين السيوطي، وهذا الكتاب الضخم يضم ما لا يقل عن مائة ألف حديث نبوي، وما يزال يصدر حتى اليوم في صورة أجزاء شهرية، واشتركت في اللجنة التي تعد لإصدار ذلك الكتاب الهام مع مجموعة من العلماء حتى الفصل 25، وكنا نقوم بتحقيق تلك الأجزاء قبل صدورها. وإلى جوار ذلك الكتاب ذكر أنه شارك في إصدار التفسير الوسيط الذي ينشره مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر حتى اليوم، وكان دوره أن يكتب تفسيرا لسورة النور.
شارك في تفسير القرآن الكريم تفسيرا تلفزيونيا كان يشرف عليه الإذاعي المعروف الأستاذ محمد الطوخي، وكان فيه مجموعة من كبار المشايخ كالشيخ الغزالي، والدكتور القرضاوي، والشيخ سيد طنطاوي، ود. الأحمدي أبو النور، ود. محمد المهدي، والشيخ عبد المعز عبد الستار، ود. عبد الله شحاته، وهو معهم، رحم الله أحياءهم وأمواتهم.. وقد أذيع هذا التفسير طويلا في تلفزيونات الخليج كلها في وقت واحد في الثمانينيات والتسعينيات. وهو تفسير شفوي للقرآن الكريم شارك فيه نخبة، ولم ينفرد به واحد، كما كان من تفسير الشعراوي وابن عثيمين عليهما رحمات الله ورضوانه.
وكان رحمه الله مشهورا بالبحث والمثابرة؛ وقدم برامج إعلامية كثيرة، بداية مع الأستاذ أحمد فراج، ونهاية ببرامجه التي لا تحصر في الإعلام القطري. وكان أحد المقربين من الشيخ المجاهد حافظ سلامة، تجول معه على وحدات الجيش المصري قبل حرب السادس من أكتوبر، للدعوة إلى الله، وتثبيت الجند، وبث الروح الإسلامية فيهم، فالشيخ تاريخ كامل للحركة الإسلامية، يشهد على ذلك كل من عاش واقترب منه،
ودعني من المعلومات المباشرة، واسمح لي أن أصف لك بعض خصاله:
جالسه خمس دقائق أضمن لك أن ينفتح قلبك على مصاريعه كلها؛ من خلال مهارته في إشاعة جو من الورع، والروح الإسلامية الحية المحيية، النبيهة الموقظة.. أو من خلال طبيعته المرحة التي تأنس للمداعبة اللطيفة، والمزحة الظريفة، التي لا تخل بمهابة العالم، ولا ورع العابد، ولا تهز صورة الرجل القرآني؛ بل تدعمها، وتمكن لها، وتذهب بجذورها في قلبك بعيدا إلى أعمق أعماقه.
أحسبه - والله حسيبه - ولا أزكيه على ربي تبارك وتعالى.
ما دخل مسجدا يصلي - فيما رأيته - إلا حرص على أن يذكر الناس، الذين يعرفونه ويحبونه، بكلمة وجيزة كثيفة، تنفذ إلى القلوب دون استئذان. ودائما ما يلتقط آية أو بعض آية مما يقرأ الإمام، ثم يستخرج منها ما شاء الله له أن يستخرج من الكنوز والدرر، بفقه جميل، وإضافات معجبة، وأداء لا تعمل فيه ولا افتعال، ولا تأستذ ولا استعلاء، بل هو المتواضع الذي يكرم (الصغار) ويكثر الاستغفار.
كان رحمه الله يحب القرآن الكريم، ويرى أنه يمكنه أن يستخرج منه ما يشاء وقت ما شاء؛ لأن فيه تبيانا لكل شيء.
وكان ترجمة لكلمة المصطفى صلى الله عليه وسلم (الماهر بالقرآن) فهو - بحق - من المهرة فيه: حفظا، وتدبرا، وتفسيرا؛ يجول بك من أول المصحف لآخره، في نظرات موضوعية دقيقة، جميلة، تحس معها بالفتح الرباني، وبما يمكن أن يعطيه القرآن الكريم لرجل اتسع واديه، فسال - بقدر سعته - علما نيرا، ولمحات مشرقة.
في مجلس من مجالس العلماء التي كنا نعقدها بالدوحة وقف أمام قوله تعالى من سورة الكهف: (هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا) ساعتين كاملتين يستلهم منهج القرآن في التلقي والتعليم - التحمل والأداء - مستخرجا معاني هي غاية في اللطف، والحلاوة، وحسن الفقه، أدهشتني وأسعدتني، وأكدت كم يمكن للقرآن الكريم أن يعطي؛ إذا فرغنا له القلوب والهمم، وأقبلنا عليه إقبال المحب الشغف.
كان يدرس في جامعة قطر - أستاذا في أقسامها – للطالبات،ومعلوم أن طول الإمساس يقلل الإحساس، فكم من أستاذ رفع التكلف اللازم بينه وبين طالباته، فنظر، وعلق، وجامل، وتساهل، أما حسن عيسى - على سنه - فكان دائما غاض البصر واللسان، كما حدثتني بعض طالباته: ما رفع عينيه في طالبة، وما نظر وأمعن، رغم أنهن قد يقعن في مقام حفيداته أو بناته، لكن الحياء خلق يصعب على مثل أستاذنا الشيخ حسن أن ينخلع منه، كما يصعب على غيره أن يحافظ عليه.
كانت يده دائما سباقة بالهدية، يستخرج مصحفا لطيف الحجم، أو كتابا من مكتبته، أو هدية صغيرة، ويعطي من أمامه! أعطاني مرة مصحفا للجيب، ثم عاد ليعطيني آخر، فلما ذكرته قال: خلاص.. إديه للسيدة أم العيال..
داعية سهل سمح، يعتمد اليسر دينا، والحنيفية السمحة منهجا، ساعده على ذلك عمر مبارك طويل، وخبرة متراكمة، وتجارب حلوة ومرة عاشها بأعصابه، وهمه، وهمته، وعمق أكاديمي وفق إليه، فسار به على محجة بيضاء بلجة، لا خلط فيها ولا شوب؛ ليصوغ تجاربه هذه وعمقه ذلك في كتبه ومحاضراته وخطبه ودروسه ولقاءاته..
ومن مناقبه أنه هو الذي اكتشف الداعية الشهير والخطيب العظيم والمجاهد الفذ في بابه الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله، عندما كان مفتشا للمساجد بوزارة الأوقاف المصرية، وتنبأ له بمستقبل واعد في مجال الخطابة والدعوة، قبل أن يعرفه أحد.
حسن عيسى كنز ذكريات حملها في طريقه الطويل في هذه الحياة (الدنيا): في أفريقيا - في إدارة الأزهر - في قطر - مع كبار علماء الأمة : حسن البنا، ودراز، والأودن، والغمراوي، وأبو زهرة، وشيوخ الأزهر، والبهي، وعبد المعز عبد الستار، والراوي، وسيد قطب، والقرضاوي، وعبد التواب هيكل، وغيرهم، يحكي ويحكي لتحس أنك أمام خزانة من خزائن التاريخ التي لا تفرغ؛ ولم يكن ليس مجرد سارد لأحداث؛ بل هو ذلك المستقرئ، المحلل، المتأمل، الناقد، يحب أن يستفيد ويفيد، في بساطة ورفق، وتواضع وحسن خلق يحسد عليه - أحسبه والله حسيبه - رغم أنه بدأ حياته ثورجيا منذ عام 1947م يتفاعل مع المظاهرات التي كان يموج بها الأزهر - الله يرحمه - بعد صدور إعلان تقسيم فلسطين؛ ليسمع للحاج أمين الحسيني، وعبد الرحمن عزام باشا وحسن البنا ورياض الصلح.. وهم يحضون الناس للجهاد في فلسطين.
خلال دراسته بالجامعة كان له عشرة زملاء آخاهم وآخوه، ودامت عشرتهم حتى قضى منهم من قضى، ومنهم العلامة د. يوسف القرضاوي و الدكتور أحمد العسال رئيس الجامعة الإسلامية العالمية في باكستان سابقا - الذي سبقه إلى الله تعالى بعشرين يوما، وصلى عليه صديقه القرضاوي بالقاهرة - والشيخ محمد الراوي حفظه الله تعالى، والشيخ مصباح، والشيخ عبد التواب هيكل شفاه الله وعافاه، وآخرون.
وقد ذكر رحمه الله أنه والشيخ القرضاوي والشيخ هيكل والشيخ الراوي تخرجوا من كلية واحدة هي كلية أصول الدين بالقاهرة.. لكن القرضاوي والشيخ هيكل كانا يسبقانه بعام دراسي واحد، وتخرجا قبله بسنة.
وروى فضيلته كيف جاء إلى الدوحة فقال: خلال مناقشة رسالتي للدكتوراه التقيت بأخي وأستاذي د. يوسف القرضاوي الذي تربطني به صلة زمالة، وأخوة، ومحبة في الله؛ منذ كنا طلابا لمدة أربع سنوات بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر، ويومها عرض علي فكرة المجيء إلى قطر، فقلت له: إن أمامي ثلاث سنوات لا بد أن أمضيها مدرسا بجامعة الأزهر؛ حتى يحق لي الابتعاث للخارج، قال: استقل ونتعاقد معك مباشرة، قلت له: إن من حق الجامعة التي منحتني شهادة الدكتوراه أن أوفي لها حقها!
وبعد أن أمضيت المدة المحددة للتدريس بجامعة الأزهر أصبحت الفرصة سانحة أمامي للابتعاث للخارج. وجاء إلى القاهرة أحد الأساتذة الأفاضل، وكان عميدا لإحدى الكليات بالسعودية، ليتعاقد معي، ولأني أعطيت د. يوسف وعدا بالسفر إلى قطر، اعتذرت للأخ السعودي، فقال لي: سأستأذن الشيخ يوسف في ذلك، قلت له افعل؛ فلما خاطب د. القرضاوي في ذلك رفض ، فكان أن اعتذرت للأخ السعودي، وشاء الله عز وجل أن آتي إلى الدوحة عام 1978 متعاقدا للتدريس في كلية الشريعة.
حسن عيسى سهل هين لين، يتمتع بليونة عجيبة، لا يتفلت إذا دعي لخير، ولا يفتش عن حجة ولا يتردد، ولا يفكر مجرد تفكير في الاعتذار، وكان على لسانه دائما: أنا خادم للدعوة! كنا ندعوه صبحا أو مساء، عن قرب أو عن بعد، فجأة أو بترتيب - إذا لم يمنعه موعد آخر من التلبية - فنجده مبادرا سباقا، في حين كنت أجد ألف اعتذار ممن هم أقل منه علما، وأصغر سنا، وأفرغ حالا!
تطلبه ساعات فيجيب ويتجاوب ولا يمل، جلس في الأستوديو معنا ذات مرة من التاسعة والنصف صباحا حتى السابعة مساء – وهو صائم، يوم عرفة – على الهواء، يتكلم ويتلقى الأسئلة، ويمازح من حوله، ويعلمهم التواضع والبساطة وحسن الخلق.
اتصلت به مرة ذات أضحى، وكعادتي - في جفائي وسوء خلقي - كان اتصالي في وقت غير معقول ولا مناسب، وكان يتغدى، فلم أشعر إلا وهو يبادرني بيمين بالله العظيم أن آتي لآكل معه (فتة) وسقط في يدي: يهديك يا شيخنا، يرضيك! والرجل يصر، وذهبت لأجد معه فضيلة الرجل الشيخ المبارك والعالم الجليل الشيخ عبد التواب هيكل، لأسبح معهما والجالسين في حديث ثر ممتع عن ذكريات رحلة طويلة قطعاها معا، مليئة بالأشواك، والأشواق، والفكر، والعبر، والبسمات، والدمعات! وكانت ظهيرة عيد مميزة لم أمر بمثلها قبلها، ونفعتني قلة الذوق لأول مرة لأجلس بين عميدي العلم والظرف، حسن عيسى عبد الظاهر وعبد التواب هيكل عليهما رحمات الله تعالى.
حسن عيسى صاحب (نكتة) بديهية خاطفة: جاءه أخونا الداعية والإعلامي محمد القصاص يدعوه لحضور عقيقة بعد أن (وضعت) امرأته طفلا ذكرا، وبسرعة قال الشيخ: (طبعا القصاصون مشهورون بالوضع)، فكانت نكتة مرتبة في موضوعها، لا تخرج إلا هكذا! وعندي من (نكته) عشرات، التي كانت تسخو بها طبيعته المرحة، أو التي يرويها عن المشايخ الظرفاء كالشيخ أبي زهرة والشيخ الغزالي والشيخ المعايرجي، وغيرهم! (وقد كتبت عن الشيوخ الظرفاء مقالات كثيرة، أنشرها في المصريون تباعا إن شاء الله).
حسن عيسى عبد الظاهر كان صورة للعالم القرآني الرقيق الودود، العامل الحريص، الجلد الكريم، البشوش الورع؛ أحسبه - والله حسيبه - ولا أزكيه على الله تعالى.
حسن عيسى عبد الظاهر كان صورة للعالم الذي يحترم نفسه وعلمه، فلا يقتحم المجالس، ولا يضيع فضول وقته؛ بل هو الذي علمنا أن ننتقل بين العمل والعمل، والنصب والنصب، والخير والخير، وهو الذي نشر في قلوبنا البشرى بنصر الإسلام وقوة الإسلام، وتأبي الإسلام على الانحناء والانكسار.
أوصاه الشيخ عبد التواب هيكل العالم الجليل الذي يرقد على فراش المرض أن يصلي عليه، فمات الموصى قبل الموصي، فسبحان الحي الباقي! وصدق من قال: أنت أحد ثلاثة: معز، أو معزى، أو معزى فيه..
اللهم ارحمنا وارحمه وسائر شيوخنا برحماتك، ومن علينا برضوانك، وانفعنا بحبه وحب أمثاله يا رب العالمين..