- اسم الكاتب:د. راغب السرجاني
- التصنيف:تاريخ و حضارة
كغيره من العلوم التي ظهرت قبل المسلمين، كان لليونانيين وغيرهم من الشعوب القديمة اهتمام بعلم البصريات، وكان لهم فيه آثار طيبة اتكأ عليها علماء المسلمين عند ممارستهم لهذا العلم، فقد نقلوا عن اليونان آراءهم في انكسار الضوء, والمرايا المحرقة وغيرها, ولكنهم لم يقتصروا على مجرد النقل بل توسعوا وأضافوا إضافات باهرة من ابتكاراتهم، واستطاعوا أن يسطروا في علم البصريات تاريخا مشرفا.
علم البصريات في الحضارة الإغريقية
في أول الأمر كانت البصريات الإغريقية تحوي رأيين متعارضين؛ الأول: هو الإدخال، أي دخول شيء ما يمثل الجسم إلى العينيين، والثاني: الانبعاث، أي حدوث الرؤية (الإبصار) عندما تنبعث أشعة من العينين وتعترضها الأجسام المرئية. وقد ظلت الحضارة الإغريقية تتناول البصريات بأخذ ورد بين هذين الرأيين، وكانت مجهودات أرسطو تفتقر إلى تفصيل حتمي، وكذلك إقليدس رغم مجهوداته الملموسة، إلا أن نظرياته كانت مقصورة على تقديم شرح كامل للإبصار؛ لأنها أغفلت العناصر الفيزيائية والفسيولوجية والسيكولوجية للظواهر البصرية، حيث ذهب إلى أن العين تحدث في الجسم الشفاف المتوسط بينها وبين المبصرات شعاعا ينبعث منها، وأن الأشياء التي يقع عليها هذا الشعاع تبصر، والتي لا يقع عليها لا تبصر، وأن الأشياء التي تبصر من زاوية كبيرة ترى كبيرة، والتي تبصر من زاوية صغيرة ترى صغيرة. أما بطليموس فرغم إبداعه في التوفيق بين التناول الهندسي والتناول الفيزيائي إلا أنه فشل في نهاية الأمر؛ لأن استخدامه كان مقصورا على دعم استنتاجات سبق التوصل إليها فعلا، بل إن معالجة النتائج التجريبية كانت تجري أحيانا بجواز مروره لهذه الاستنتاجات.
إسهامات العلماء المسلمين :
ظلت البحوث في علم البصريات تدور في هذا الفلك السابق دون تقدم أو رقي، وبقيت على ذلك حتى جاءت الحضارة الإسلامية، فكان لإسهامات المسلمين في علم البصريات نسق آخر متطور وفريد؛ وذلك نظرا لنبوغهم في العديد من العلوم المرتبطة بهذا العلم مثل الفلك والهندسة الميكانيكية وغيرهما، إذ إن ابتكاراتهم قد تتداخل فيها هذه العلوم.
أبو يوسف الكندي
جاء الفيلسوف أبو يوسف الكندي، والذي يعد من أوائل العلماء المسلمين الذين طرقوا ميدان علم الطبيعة وعلم البصريات؛ حيث تناول الظواهر الضوئية وعالجها في كتابه الشهير (علم المناظر)، وقد أخذ بنظرية الانبعاث الإغريقية، إلا أنه أضاف كذلك وصفا دقيقا لمبدأ الإشعاع، وصاغ من خلال ذلك أساس نظام تصوري جديد يحل في نهاية الأمر محل نظرية الانبعاث، وكان لكتابه (علم المناظر) صدى في المحافل العلمية العربية، ثم الأوربية خلال العصور الوسطى.
الحسن بن الهيثم رائد علم الضوء
ومن بعده جاء الحسن بن الهيثم والذي تعد أعماله العلمية فتحا جديدا ووثبة خطيرة في عالم البصريات وفسيولوجية الإبصار، وكانت أعماله هي الأساس الذي بنى عليه علماء الغرب جميع نظرياتهم في هذا الميدان، وكان في طليعة العلماء الأجانب الذين اعتمدوا على نظرياته -بل أغاروا عليها ونسبوها لأنفسهم- روجر بيكون وفيتلو وعلماء آخرون، ولا سيما في بحوثهم الخاصة بالمجهر والتلسكوب والعدسة المكبرة.
بدأ ابن الهيثم أولا بمناقشة نظريات إقليدس وبطليموس في مجال الإبصار، وأظهر فساد بعض جوانبها، ثم في أثناء ذلك قدم وصفا دقيقا للعين وللعدسات وللإبصار بواسطة العينين، ووصف أطوار انكسار الأشعة الضوئية عند نفوذها في الهواء المحيط بالكرة الأرضية بعامة، وخاصة إذا نفذ من جسم شفاف كالهواء والماء والذرات العالقة بالجو، فإنه ينعطف -أي ينكسر- عن استقامته، وبحث في (الانعكاس) وتبيان الزوايا المترتبة على ذلك، كما تطرق إلى شرح أن الأجرام السماوية تظهر في الأفق عند الشروق قبل أن تصل إليه فعلا، والعكس صحيح عند غروبها، فإنها تبقى ظاهرة في المجال الأفقي بعد أن تكون قد احتجبت تحته، وهو أول من نوه باستخدام الحجرة السوداء التي تعتبر أساس التصوير الفوتوغرافي.
والكتاب الذي خلد اسم ابن الهيثم عبر القرون هو (كتاب المناظر)، ويوضح هذا الكتاب تصور البصريات كنظرية أولية في الإبصار، مختلفة جذريا عن فرض الشعاع المرئي الذي حافظ عليه التقليد الرياضي منذ إقليدس وحتى الكندي، ولقد أدخل ابن الهيثم أيضا منهجية جديدة على هذا التفسير لعملية الإبصار، وبهذا تمكن من صياغة مسائل كانت إما غير مفهومة طبقا لنظرية الشعاع البصري، أو مهملة من جانب فلاسفة يهدفون أساسا إلى تفسير ماهية الرؤية أكثر من اهتمامهم بشرح كيفية حدوث الإبصار.
وقد ألف ابن الهيثم في البصريات وحدها ما يقرب من أربعة وعشرين موضوعا، ما بين كتاب ورسالة ومقالة، غير أن أكثر هذه الكتب قد فقد فيما فقد من تراثنا العلمي، وما بقي منها فقد ضمته مكتبات إستانبول ولندن وغيرهما، وقد سلم من الضياع كتابه العظيم (المناظر) الذي احتوى على نظريات مبتكرة في علم الضوء، وظل المرجع الرئيسي لهذا العلم حتى القرن السابع عشر الميلادي بعد ترجمته إلى اللاتينية. فكان كتاب (المناظر) ثورة في عالم البصريات، وفيه لم يتبن ابن الهيثم نظريات بطليموس ليشرحها ويجري عليها بعض التعديل فحسب، بل إنه رفض عددا من نظرياته في علم الضوء، بعدما توصل إلى نظريات جديدة غدت نواة علم البصريات الحديث.
فقد كان بطليموس -كما ذكرنا- يزعم أن الرؤية تتم بواسطة أشعة تنبعث من العين إلى الجسم المرئي، وقد تبنى العلماء اللاحقون هذه النظرية، ولما جاء ابن الهيثم نسف هذه النظرية، وبين أن الرؤية تتم بواسطة الأشعة التي تنبعث من الجسم المرئي باتجاه عين المبصر، وبعد سلسلة من الاختبارات أجراها ابن الهيثم بين أن الشعاع الضوئي ينتشر في خط مستقيم ضمن وسط متجانس، وقد أثبت ذلك في كتاب (المناظر).
كذلك برهن ابن الهيثم رياضيا وهندسيا على كيفية النظر بالعينين معا إلى الأشياء في آن واحد دون أن يحدث ازدواج في الرؤية برؤية الشيء شيئين، وعلل ابن الهيثم ذلك بأن صورتي الشيء المرئي تتطابقان على شبكية العينين، وقد وضع ابن الهيثم بهذه البرهنة وذلك التعليل الأساس الأول لما يعرف الآن باسم الاستريسكوب، وكان ابن الهيثم أول من درس العين دراسة علمية، وعرف أجزاءها وتشريحها ورسمها، وأول من أطلق على أجزاء العين أسماء أخذها الغرب بنطقها أو ترجمها إلى لغاته، ومن هذه الأسماء: القرنية (Cornea)، والشبكية (Retina)، والسائل الزجاجي(Vitrous Humour)، والسائل المائي (Aqueous Humour).
ومن أهم إنجازات ابن الهيثم بصفة عامة في البصريات: أنه أول من أجرى تجارب بواسطة آلة الثقب، أو البيت المظلم، أو الخزانة المظلمة، واكتشف منها أن صورة الشيء تظهر مقلوبة داخل هذه الخزانة، فمهد بهذا الطريق إلى ابتكار آلة التصوير، وبهذه الفكرة وتلك التجارب سبق ابن الهيثم العالمين الإيطاليين (ليوناردو دوفنشى) و(دلا بورتا) بخمسة قرون.
كما وضع ابن الهيثم -ولأول مرة- قوانين الانعكاس والانعطاف في علم الضوء، وعلل لانكسار الضوء في مساره، وهو الانكسار الذي يحدث عن طريق وسائط كالماء والزجاج والهواء، فسبق ابن الهيثم بما قاله العالم الإنجليزي نيوتن.
وكان أحد أبرز إنجازات ابن الهيثم في كتابه المذكور تجربة الصندوق الأسود، وتعتبر الخطوة الأولى في اختراع الكاميرا، وكما تقول الموسوعة العلمية: فابن الهيثم يعتبر أول مخترع للكاميرات، وهي ما يسمى عمليا: (Camera obscura).
ومن يطلع على كتاب (المناظر) والموضوعات التي تتعلق بالضوء وما إليه يخرج بأن ابن الهيثم قد طبع علم الضوء بطابع جديد لم يسبق إليه، وقد ألف هذا الكتاب عام (411هـ/ 1021م)، وفيه استثمر عبقريته الرياضية، وخبرته الطبية، وتجاربه العلمية، فتوصل فيه إلى نتائج وضعته على قمة عالية في المجال العلمي، وصار بها أحد المؤسسين لعلوم غيرت من نظرة العلماء لأمور كثيرة في هذا المجال.
وعلى الرغم من مكانة ابن الهيثم وبحوثه المبتكرة في علم الضوء، إلا أنه ظل مغمورا لا يعرفه كثير من الناس، حتى قيض الله من يكشف عن جهوده وينقب عن آثاره ويجليها، وكان من هؤلاء العالم المصري مصطفى نظيف، وذلك حين كتب عنه دراسة طيبة رائدة نشرتها جامعة القاهرة في مجلدين، وقد بذل فيها جهدا مضنيا في قراءة مخطوطات ابن الهيثم ومئات المراجع الأخرى، حتى خلص إلى حقيقة صادقة، وهي أن ابن الهيثم خليق بأن يعد بحق رائد علم الضوء في مستهل القرن الحادي عشر.
وليس كل ما ذكرناه إلا جزءا بسيطا من الإنجاز الهائل الذي قدمه المسلمون لعلم البصريات، فما أروعه من إنجاز!!