واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة

16 2100

إذا كانت قوانين الأرض تقرر أنه لا عقوبة من غير جريمة، فإن القرآن الكريم -لاعتبارات معينة- يقرر أن الذنوب إذا ظهرت في المجتمع فإن ذلك يستدعي عقوبة المجتمع بأكمله، وهو ما قررته الآية الكريمة في قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب} (الأنفال:25)، فقد حذرت الآية بكل وضوح أفراد المجتمع المسلم، بأن الظلم بكل أشكاله وأنواعه إذا ظهر بينهم فإن العقوبة تشملهم جميعا، ويكون مقصود الآية التحذير من فتنة تتعدى الظالم، فتصيب الصالح والطالح.

والسبب في شمول العقاب وعمومه، يمكن أن نستوضحه من خلال أمرين: أحدهما: الوقوف على سبب نزول هذه الآية، وهو مقصد مبتغى من هذا المقال. الثاني: ما يذكره المفسرون من المراد منها، وهو المقصد الأهم فيما نحسب.

فيما يتعلق بسبب نزول هذه الآية لا تسعفنا كتب أسباب النزول الرئيسة - وهما كتاب السيوطي والواحدي - بشيء في هذا الصدد، حيث إنهما لم يذكرا شيئا عن سبب نزول هذه الآية، ما يفهم منه أنه لم يصح شيء بهذا الشأن.

بيد أن المفسرين - في أثناء تفسيرهم لهذه الآية - يذكرون بعض الروايات المتعلقة بسبب النزول، فيذكرون رواية عن الإمام أحمد وغيره تذكر أن بعضهم قال للزبير رضي الله عنه: يا أبا عبد الله! ضيعتم الخليفة حتى قتل، ثم جئتم تطلبون بدمه. قال الزبير: إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}، ولم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت.

وفي رواية للطبري عن قتادة، قال: قال الزبير بن العوام: لقد نزلت وما نرى أحدا منا يقع بها. ثم خلفنا في إصابتنا خاصة. ونحو هذا مروي عن الحسن.

وقريب مما تقدم ما ذكره القرطبي عن الزبير بن العوام رضي الله عنه أنه قال يوم الجمل -وكان سنة ست وثلاثين-: ما علمت أنا أردنا بهذه الآية إلا اليوم، وما كنت أظنها إلا فيمن خوطب ذلك الوقت.

وذكر القرطبي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكر ابن كثير عن داود بن أبي هند ، عن الحسن في هذه الآية، قال: نزلت في علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، رضي الله عنهم.

وعند ابن كثير أيضا، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب}، يعني: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة.  

وأخرج الطبري وغيره عن السدي، قال: نزلت في أهل بدر خاصة، فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا، فكان من المقتولين طلحة والزبير، وهما من أهل بدر.

هذا مجمل ما تذكره كتب التفسير من روايات حول سبب نزول هذه الآيات، وكما هو واضح فإن هذه الروايات إن لم تثبت بطرق معتبرة، بيد أنها بمجموعها تصلح للاعتبار، ولتكوين فهم مجمل حول سبب نزول هذه الآية.

ثم إن الأمر لا يحتاج إلى كبير عناء للقول: إن هذه الروايات تفيد أن الآية نازلة في حق الصحابة رضي الله عنهم، استشرافا لما كان سيكون بينهم من اختلاف في قابل الأيام، بيد أن هذا الخصوص لا ينبغي الوقوف عنده، وبالتالي يكون الأجدر - بحسب مقاصد النص القرآني - حمل الآية على العموم.

ويرشد لهذا العموم - فضلا عن القاعدة التي تقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب -، قول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين ظهرانيهم، فيعمهم الله بالعذاب. وقد عقب ابن كثير على قول ابن عباس هذا بقوله: وهذا تفسير حسن جدا. وتابع قائلا: والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم - وإن كان الخطاب معهم - هو الصحيح، ويدل على ذلك الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن. ونقل عن مجاهد في قوله تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}، قوله: هي أيضا لكم. وكذا ذهب غير واحد من أهل العلم إلى القول بعموم المراد من هذه الآية.

فتحصل مما تقدم - وهنا بيت القصيد - أن الخلل بأشكاله كافة، إذا ظهر في المجتمع المسلم، فإن على هذا المجتمع أن يتصدي لدفع ذلك الخلل ومقاومته والأخذ على يده، وإلا فإن العقاب - في الدنيا والآخرة - سوف يصيب الجميع؛ من جهة أن هذا المجتمع بمثابة جسم واحد، لا انفصال بين أفراده ولا انفصام.

وقد تضافرت جملة من الأحاديث التي تؤكد هذا المعنى، من ذلك قول زينب بنت جحش رضي الله عنها: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: (نعم، إذا كثر الخبث)، متفق عليه.

وفي "الصحيحين" قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أنزل الله بقوم عذابا، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم). 

وفي هذا المعنى أيضا، قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة - اقترعوا -، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميع)، رواه البخاري.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب)، رواه أصحاب السنن إلا النسائي.

ثم ها هنا سؤال قد يرد، وهو أن قوله تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام:164)، يوجب ألا يؤخذ أحد بذنب أحد، وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب. والجواب -كما قال ابن العربي-: إن الناس إذا تظاهروا بالمنكر، فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره؛ فإذا سكت عليه فكلهم عاص. هذا بفعله، وهذا برضاه. وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنـزلة العامل؛ فانتظم الجميع في العقوبة.  

وعلى ضوء ما ذكر من سبب نزول هذه الآية ومقصودها، يتبين خطورة السكوت عن المنكر والتغاضي عنه، فإن ذلك مؤذن بعموم العقاب، وهو ما يؤكد على المسؤولية الجماعية للمجتمع، وأنه ليس بوسع أحد أن يتنصل ويتهرب من هذه المسؤولية، بل الجميع مطالبون بالحفاظ على سفينة الحياة، وإيصالها إلى بر الأمان.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة