الاستشراق بين الغايات المسبقة والرؤى النقدية

1 1067

 لم يكن "الاستشراق" يوما علما مبرأ عن الأسبقيات المعرفية أو منزها عن المآرب الغربية الاستعمارية، كما يرى ذلك عدد من دارسيه ومنتقديه على حد سواء؛ فدور الوصاية السلطوية الذي مارسته الثقافة الغربية تجاه الثقافات الأخرى ومنها ثقافتنا، وسم الاستشراق بصورة التبشير الديني تارة، وصورة التمثيل التصويري تارة أخرى، وصورة الاستعمار المباشر تارة أخرى.

يحاول الدكتور صلاح الجابري في كتابه هذا تقديم محاولة لبناء منهج ورؤية تنطلق من سياق حضاري إسلامي لتجاوز الأحكام الانفعالية والرؤى السطحية، والنظر إلى الإسلام بوصفه قيمة معرفية وحضارية، لا كما ينظر إليه الاستشراق.

يشكل الاستشراق مظهرا من مظاهر الثقافة الغربية التي تتحكم فيه معيارية التفوق الغربي على الشرق، والفوقية العرقية، والمركزية الثقافية والسياسية الغربية، وقد عززت التطورية الاجتماعية تلك النظرة، لتحقق رغبة الإنسان الأوروبي في القرن الثامن عشر، في ترتيب سائر الشعوب الأخرى في سلم التطور، ومحاولة منه للعثور على تبرير وتعليل علمي لتنوع الثقافات وتباينها وتفاوتها، لتسويغ الهيمنة الأوروبية، وهو ما وجد صيغته الفلسفية في أفكار هيجل، وماركس، وروبنز.

فمنطلق الاستشراق الاستعلائي تكمن قيمته في النظر إليه بوصفه تعبيرا عن القوة (الأوروبية - الأطلسية) إزاء الشرق، وتكمن قيمته الأداتية، في كونه إنشاء لغويا عن الشرق، هدفه السيطرة عليه، وهذا ما يؤكد حقيقة التمثيل، في إعادة بناء الشرق بعيدا عن واقعه، ووفق مسلمات ذهنية غريبة عن ذلك الواقع، مستبعدة الواقع التاريخي والنفسي، ومستبدلة إياه بصورة خيالية، ابتكرها خيال الإنسان الغربي، أما سياسة التماثل التي سعى إلى تكريسها، فهي الغاية النهائية للإمبــريالية دون إنهــاء لهــا بالمعنــى السيــاسي أو القضائي.

ويرى المؤلف أن العلاقة بين الاستشراق والإنثروبولوجيا، علاقة وثيقة، فقد شكلا رافدين أساسيين للسلطة الاستعمارية، ويشتركان في موضوع واحد، هو الشرق أو العالم الثالث، لكن الاستشراق أسبق من الإنثروبولوجيا من الناحية التاريخية، إلا أن الدراسات الإنثروبولوجية زودت المستشرقين بمادة غنية لبناء تصوراتهم عن الحياة الفردية والاجتماعية للمجتمعات المتخلفة.

ويؤكد الكتاب أن الموقف من القرآن (كواقعة تاريخية) لدى المستشرقين اتخذت صورا متعددة، بالرغم من توحدها حول قطب تاريخي مركزي يميزها عن الصورة التي ينظر من خلالها المسلمون إلى القرآن الكريم. وتتمثل بالتشديد على استقطاب الإمكانات العلمية (التاريخية واللغوية والأنثروبولوجية) لإثبات بشرية القرآن، وإلغاء مصدره الإلهي، وقد تفاوتت المحاولات بين التصريح والتلميح. وقد تفاوت النقد الاستشــراقــي بيـــن الإقصــاء والــبناء، أو السلب والإثبات، وقد مثل بيرون والسفسطائيون قديما، و(هيوم) والمدارس المعاصرة حديثا، الطرف الأول، في حين مثل كل من سقراط والغزالي قديما، و (كانط) حديثا، الطرف الثاني.

وتمثل المدارس المعاصرة امتدادا للنقد السلبي القديم في موقفها من مسألة الوجود ولواحقه، لكن المدارس المعاصرة، في وضع أفضل بكثير من المدارس القديمة (السلبية)؛ ذلك أنها وجدت في العلم بديلا عن الميتافيزيقيا، وبالعقلانية المرتبطة بحدود التجربة والحس بديلا منهجيا، في دراسة الوجود ولواحقه، عن المنهج العقلي المرتبط برؤية (حدسية - منطقية)، مستقلة عن التجربة الحسية.

ويرى المؤلف أن المستشرقين انطلقوا في نظرتهم إلى الإسلام، من أن الإسلام ليس دينا سماويا، ولذلك يجب أن يكون تعبيرا عن إسهام عوامل مختلفة: دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية، في إنضاج فكرة مركبة في ذهن إنسان معين، ثم وجدت تلك الفكرة طريقها إلى الواقع، فتحولت إلى نظام اجتماعي وسياسي شامل، احتل تلك المساحة الواسعة على الأرض، وفي الفكر الإنساني.

وجاءت دعوة المستشرقين وتلامذتهم إلى تناول التراث الإسلامي بصورة تجرده من صفة القداسة غير واضحة. ويؤكد المؤلف أن فهم كثير من المسلمين دعوة تجريد التراث من القداسة، بأنها إنكـار الأصـــل الإلهـــي للقرآن، هـــو ما قصده المستشرقون تماما.

فقد تجاوز المستشرقون مع الفكر والعقيدة والتاريخ في الإسلام المنهج التاريخي، ليتناولوا بتقييماتهم موضوعات سيكولوجية، خارج إطار المنهج، ولم تقتصر دعواهم على فصل الدين عن الدولة، وإنما راحوا ينكرون الأصل الإلهي للقرآن، فتخبطوا بين محاولات التحليل الفيلولوجي والتحليلات النفسية والعناية بطبيعة الحياة العربية قبيل الإسلام.

ثم يحلل المؤلف الموقف الاستشراقي من القرآن الكريم والرسالة الإسلامية، ويرى أنه قد مر بثلاث خطوات، حاول أن يدلل من خلالها على بشرية القرآن ووضعية الرسالة:

وكانت أولى الخطوات، تمثل محاولات إثبات أن الرسول [ - صلى الله عليه وسلم -] ليس أميا، بل يعرف القراءة والكتابة.

والخطوة الثانية هي بما أن الرسول [ - صلى الله عليه وسلم -] يعرف القراءة والكتابة، فإنه استطاع الاستفادة من الأديان والثقافات السابقة لوضع القرآن.

وأخيرا، إن ادعاء النبوة هو نوع من الأمراض النفسية التي لا تجعل الشخص يميز بوضوح بين وعيه الطبيعي ووعيه الباطني.

ثم يخوض المؤلف في تفنيد هذه الادعاءات ومداخلها وغاياتها، معتبرا أن الوحي ممثلا بالقرآن الكريم، سيظل المحرك الحضاري لهذه الأمة، بصرف النظر عن ادعاءات المستشرقين وأسبقياتهم المعرفية والكيدية.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة