معركة المصطلحات!

0 1087

يكاد المتابع للحوارات والندوات التي تعرض على شاشات التلفاز، أو صفحات الجرائد والمجلات أن يشك في صحة المفاهيم التي ترسخت في ذهنه عبر الزمن، ويتساءل: أتراه تلقى علما مغشوشا، أم أن صناعة ـ أو بالأحرى حرفة "تبييض" ـ المفاهيم التي تروج لها الأجهزة الإعلامية الغربية أصبحت مصدر ربح مادي، وطريقا إلى النجومية الزائفة؛ نجومية يتسابق للحصول عليها والفوز بها أرباب القلم والريشة و "لوحة المفاتيح".

هل انتقلنا فعلا من "تبييض" الأموال التي خربت اقتصاد بلداننا إلى تبييض المفاهيم المخربة للعقول والمحبطة للأنفس؟ فقد استبيحت حرمة الكلمات، وانتهكت المفاهيم، وأضحت تفصل حسب الحاجة، ولم يعد "المنجد" ملجأ لمن يريد أن يدقق ويتحقق من معانيها، حيث تداخلت وأصبحت أضدادها أشباها لها ونظائر. إنها حرفة جديدة تهدف إلى تسويق الكلمات المعدلة "جينيا" لكي تدخل المجال التداولي وتتسق فيه محدثة بذلك حالة فوضى المعاني التي لم نشهد لها مثيلا. أصبح الاحتلال تحريرا، وأصبح التحرير إرهابا، ولم يعد الإرهاب شيئا آخر غير الإرهاب الديني، واختزل ذلك في الإسلام.

تجري هذه المصطلحات على لسان المتحدثين وكأنهم يلقون قصيدة مبرمجة آليا، ولا يبدو عليهم الحرج، ولماذا الحرج في هذا الزمن الذي انفتح فيه كل شيء على كل شيء، فلماذا لا تنفتح المفاهيم على بعضها؟!؛ فمنذ زمن ليس بالبعيد كانت المفاهيم نسبية، تستمد حقيقتها من الإيديولوجية التي تنسب إليها، فنقول مثلا الحرية من منظور ماركسي أو ليبرالي أو ديني. أما الآن، وبعد انهيار الأنساق الفكرية المنغلقة، فقد اتخذت طابعا إطلاقيا على الرغم من خصوصية نشأتها.
 ليس ذلك منا أسفا على انهيار الأنساق الفكرية المنغلقة، ولا حنينا إلى عصر الإيديولوجيات حتى وإن كانت متعددة فإنها عقبة أمام النظر والتأمل فتحجب بذلك الحقيقة؛ فماذا سيكون عليه الأمر إذا أصبحت أيديولوجية واحدة قاهرة ومهيمنة؟

كنا نظن أن السياسي ـ وبحكم تعامله مع فن الممكن ـ أكثر الناس عرضة للإقدام على العبث بالكلمات والمفاهيم، لأن الذي يهمه بالدرجة الأولى إضفاء شيء من المشروعية على الفعل الذي يقوم به، ويهمه ثانيا أن تبقى الصورة "معلقة" وقابلة للامتداد والتشكل حسب الحاجة، مثلها مثل خريطة الدول التي ترفض أن ترسم حدودا نهائية لها… ولكن الأمر أضحى أكبر خطورة بتسارع العديد من المفكرين إلى استغلال المنابر المتاحة ليبشروا بالمفاهيم "الجديدة"، ويمضغوا دونما حياء فضلات الدعاية السياسية الغربية، فيتوسعوا في الحديث عن الأصولية الإسلامية والإرهاب الإسلامي، ويدينوا ـ و يتزيدوا في ذلك ـ من أدانتهم الإدارة الأمريكية، ويصفقوا لمن تصفق لهم.

أصبحت أولوياتهم نسخة طبق الأصل من أولوياتها، ورفعوا شعارات محاربة الإرهاب ـ الذي اتخذ عندهم شكلا واحدا ـ ونسوا أو تناسوا الآلاف من الضحايا الذين يحصدهم يوميا إرهاب الفقر وإرهاب الاستبداد. يتناوبون دفعة وراء دفعة أملا في أن يصبح الكون كله ناطقا بلسان واحد، ومفكرا بطريقة واحدة، ومن شذ عن القطيع ألحق بمحور الشـر. بعضهم يظن أن ذلك من شروط الاعتراف بنا، فلا وجود إلا للأجناس المتماثلة: هكذا تحدث الزعيم الأوحد! وينسى هؤلاء أن الاعتراف بالمعدوم محال؛ لأن الاعتراف بالآخر لا يكون ممكنا إلا بالتعارف، والتعارف يقتضي الاعتراف به وليس القضاء عليه، وهكذا تكلم القرآن: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) .

ليس مطلوبا من المفكر في هذه الحالة العامة من الإحباط أن يكون ملتزما بقضايا شعبه وأمته، فقد قيل إن ذلك زمان قد ولى، ولكن المطلوب منه أن يحترم ذاته، ويحترم علمه، ولا يبخسه فيتحول إلى مجرد "تاجر للمصطلحات المعدلة وراثيا"، لا هم له إلا الترويج لها، فيدنس المقدس، ويقدس المدنس.

تعلم الشعوب بحسها المرهف طبيعيا أنها كانت ولا زالت مكبلة في كثير من حالتها بأنظمة القمع والاستبداد، ولكنها تعلم أنها ستكون أكثر تكبيلا في ظل احتلال الأسياد لأراضيها بعد غياب أو عطالة الوسطاء؛ ولذلك فهي ليست في حاجة إلى من يعلمها ويكشف لها سر حالها. وهي تعلم أن هؤلاء المدعين للعلم الذين يدعونها إلى الاستسلام كانوا يوما ما عونا للوسطاء المستبدين. ويتوهم البعض أن الإمعان في إذلال الشعوب سيجعلها أكثر طوعا وأكثر قبولا للاستسلام، ولكنهم جهلوا أن يقظة ضمير فئة صغيرة من الناس كافية لتعيد للأمة توازنها، وتحيي فيها جذوة البقاء التي ظنوها منطفئة.

إن هرول كثيرون طلبا للرضى مسرعين، فعلى أصحاب الفكر أن يتمهلوا قليلا، أو يتثاقلوا في هرولتهم إذا كانوا عاجزين عن الصدع بالحق، فلن يمضي وقت طويل حتى يقتنع أصحاب القرار في الغرب أن هذه الأمة ترفض أن تفنى، وستظل عوامل البقاء كامنة فيها، وسيعترفون بخطأ خيارهم المبني على القوة في التعامل معها، وسيعلمون أن المنطق الوحيد الذي يجب أن يسود هو منطق المصالح المتبادلة.

إنها دعوة للمفكرين الذين جرفهم التيار عن وعي أو عن غير وعي إلى التوقف لحظة والتفكير بعمق في هذه المصطلحات التي غزت لغتنا السياسية والثقافية، ويسهموا في تحديد معناها تحديدا دقيقا يضع حدا للتلاعب بها، ويعيدوا للكلمات دقتها. وسيستبين لهم أن المنطق الذي يحكم الصراع على مناطق النفوذ، والاستحواذ على مقدرات الشعوب، والتحكم في صياغة المفاهيم وبلورتها منطق واحد، وأنه لا فرق بين "القنابل العنقودية" وبين مقولات التشكيك في التضحية والاستشهاد، فكلها أسلحة دمار شامل، الأولى تصيب المنشآت المادية، وتستهدف الأنفس، والثانية تصيب الروح وتستهدف النيل من مقومات البقاء.

سترتعش يد المقاتل الفلسطيني عندما تصيبه رصاصة التشكيك في الهدف الذي يضحي من أجله، فلا تزيدوا الأمهات الثكالى اللائي أفرغت أفئدتهن جرحا وألما بالتشكيك في نبل مقاصد أبنائهن الذين ضحوا بأرواحهم. سيقول البعض ممن يرفعون شعار العقل والتعقل إن العاطفة، والمشاعر تهدم ولا تبني، وتجعل أصحابها يتصرفون بحماقة وسذاجة فتأتي على الأخضر واليابس؛ ولكن أليس عين العقل أن نستثمر عن وعي وبصيرة السلاح الذي لم ينجحوا في إسقاطه من أيدينا، سلاح الثقة في أننا أصحاب حق والحق غالب لا محالة؟ وماذا يجب علينا أن نفعل حيث لم يبق لنا من سلاح سوى سلاح المشاعر الصادقة بعد أن تم تأميم عقولنا؟ أليس من الحكمة أن نغذي هذه المشاعر النبيلة ونرشدها بدلا من أن نحيطها بحالة من الغموض، تهوينا من شأنها وتقليلا من فعاليتها فنقضي بذلك على العقول والمشاعر معا؟

ومن حق أصحاب النيات الطيبة أن يتساءلوا قائلين: ألم يكن الفكر الإصلاحي بكل تياراته قائما على استراتيجية التبيئة لمصطلحات غربية النشأة، وعديمة الصلة بتراثنا الفكري؟ فلماذا إذا هذا الخوف مما اسميتموه "بتبييض" المفاهيم والمصطلحات، وهو لا يختلف في جوهره عن التبيئة؟

قد يبدو في الأمر شيء من الوجاهة، ولكن علينا أن نتأمل في غاية كل منهما. فالتبيئة ـ وبغض النظر عن الكيفيات التي تمت بها ـ جاءت أساسا في إطار البحث عن مخرج للتخلف الذي عانت منه الأمة في كل المجالات؛ أما الهدف من تداول المصطلحات التي تروج لها المخابرات المركزية الغربية ـ بعد نسبتها إلى "مفكرين في مجالات العلوم الإنسانية" فهو تعميق الحروب الأهلية في كل صورها وأشكالها، العسكرية والكلامية والثقافية، مع حرص دائم على تغيير الأدوار وتغيير الشخصيات في عملية تمويه أضحت مفضوحة ومعلومة لدى الجميع.

تلك هي محصلة الفكر الذي يستهدي بالمرايا المحدبة، التأسيس للاستبداد السياسي عقلا، والتقعيد للاسترخاء ثقافة. فالمشاعر التي نريد أن ننميها ليست تلك الناتجة عن شطحات المتصوفة أو نشوات المخمورين، وإنما المشاعر المتيقظة والمنمية لتلك الجذوة الباقية. فبقدر ما تكون تلك الجذوة عميقة ومتسعة تكون قوى المناعة عند الأمة في وضع أكثر صلابة وأكثر متانة.

ذلك هو الوجه الآخر للتفكير السليم والذي كثيرا ما يتم استيعاده مرة باسم "الحياد العلمي" جهرة ومرة باسم الخوف والطمع خفية. وتلك مهمة أخرى من مهام المفكر الحر الذي يرفض أن يسجن التفكير في منطق الربح والخسارة الماديين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة