علم الخطط

0 985

قد يكون التاريخ و الجغرافيا أقدم علمين عرفتهما الحضارات البشرية التي عكست مدى اهتمام الإنسان ببعدي الزمان و المكان في حياته و ماهية وجوده على وجه الأرض. و قد كان للحضارة الإسلامية دور مهم في دفع هذين العلمين إلى ما هما عليه الآن من حيث المنهج و المادة العلمية و الوسائل.

فقد كانت مادة الزمان راسخة في الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) الإسلامية بفعل الإيمان بالغيب حيث حددت مسيرة البشر بين نقطتين زمنيتين هما خلق آدم عليه السلام و قيام الساعة. كما أن المكان قد تحدد في تلك الميتافيزيقا بالأرض التي اعتبرت مكان الابتلاء و العيش المؤقت.
 و قد ترسخت ثنائية تفاعل الزمان بالمكان منذ أولى أيام الحضارة الإسلامية. فقد اهتدى المسلمون الأوائل بعد إرهاصات فكرية إلى التأريخ لمسيرتهم الحضارية بيوم الهجرة. كما ارتبط هذا اليوم المرجعي بإحداثيات جغرافية حددت مسيرة تلك الهجرة و هما مكة و المدينة، و بالاتجاه نحو القبلتين في الصلاة؛ المسجد الأقصى بداية ثم المسجد الحرام.

و قد اتخذ التاريخ مكانة الريادة في الكتابات الأولية حيث اعتبر الزمان محورا لتركيب التسلسل الزمني للأحداث والوقائع، و اقتنعت الجغرافيا بدور التابع، حيث اهتمت بوصف الأمكنة التي حوت تلك الأحداث. و هكذا فقد عرفت التآليف الأولى تصنيفا زمنيا للوقائع وضعت وحدات الزمن، اليوم و الشهر و السنة ثم القرن، كأوعية تنتظم فيها تلك الأحداث.

غير أن التوسع العلمي سرعان ما اقتضى تمايز كل من التاريخ و الجغرافيا في الأدب و فصل التنازع بينهما عن الريادة. فإذا كان التاريخ قد اتخذ من سيرورة الزمان محورا لترتيب الأحداث، فإن المكان الواحد كثيرا ما كان كذلك مسرحا لعدة أحداث، بل قد يكون هو العامل الرئيسي في ولادة الأحداث، كما هو أمر الكعبة المشرفة مثلا أو بيت المقدس أو المسجد النبوي ونحوها من أماكن  توالت عليها أحداث تاريخية مهمة و التي شكلت بذلك تاريخ كل من مدن مكة المكرمة و المدينة المنورة و القدس الشريف وغيرها.

و بذلك فقد بدأت ملامح الدور الريادي للمكان تظهر من خلال عناوين المؤلفات المكانية و ذلك مثل "معجم البلدان" و "فتوح البلدان" و "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم" و "المسالك والممالك". و لعل ما يكون قد أزعج ابن خلدون بالإضافة إلى المنهج السردي الذي كان يتبعه المؤرخون، هو هذا التجافي بين العلمين، مما حدا به أن يؤسس نظرية العمران التي تجسر الهوة بين الطرفين. فرغم تغلب مادة التاريخ على مؤلفه الكبير كما يبدو من عنوانه: " كتاب العبر و ديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب و العجم و البربر و من عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر"، إلا أن مقدمته جاءت لتؤكد دور الجغرافيا الحاسم في نشأة الحضارات و حتمية شروط المكان في تشكيل الظاهرة الحضرية و التجمع البشري و سلوك الإنسان. و قد صاغ ذلك في ما اعتبره سننا كونية تتحكم في الصيرورة التاريخية.

و هكذا بدأ التصنيف يأخذ في كتب متأخرة منحى اختصاصيا واضحا يكون أحد المجالين رائدا و الآخر تابعا. فقد استمر اهتمام المؤرخين بالمذكرات و تدوين الوقائع و رصد الأحداث، واضعين الأماكن في المقام الثاني، في حين اهتم الجغرافيون و الرحالة بوصف الأمكنة وصفا دقيقا حتى لكأن القارئ يراها مكتفين ببعض الإشارات التاريخية عما حدث بتلك الأماكن.

و من هنا نفهم كيف نشأ علم الخطط الذي يعنى بالمدن و المستوطنات البشرية. فمن الطبيعي أن تكون للمدن مكانة خاصة في كلا المجالين ( التاريخ و الجغرافيا) باعتبارهما مسرح الأحداث و نشأة الحضارات و كذلك اندثارها، و هو ما بوأهما مكانة خاصة في التصنيف، و أفرد لهما مجالا جديدا هو ما يمكن أن يسمى علم الخطط. فقد بدأ المكان يأخذ مكانة محور التصنيف بينما أحيلت المادة التاريخية إلى الصف الثاني. و في بعض مؤلفات الخطط يكون عامل الزمن قد توقف أو غاب أو تقلص فاتحا المجال للعامل المكاني أو الجغرافيا. لكنه في الغالب، و مهما يكن من اهتمام بالجغرافيا، فإن عاملي الزمان و المكان بقيا في الغالب متلازمين في كتب الخطط، كما هو واضح في كتب كل من المقريزي و الخطيب البغدادي و غيرهما.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة