غزوة مؤتة

1 2906

اتسمت العلاقات بين المسلمين والروم بالتوتر ، فقد دأبت الروم ومن والاها من العرب على مضايقة المسلمين واستفزازهم بكل الطرق ، وكان من أظهرها المحاولات المتكررة للتعرض لتجارة المسلمين القادمة من الشام ، والقيام بالسلب والنهب للقوافل التي تمر بطريقهم ، ناهيك عما مارسوه من ضغوطات ومضايقات طالت كل مسلم وقع تحت أيديهم .    

وبلغ الأذى ذروته حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي رسولا إلى ملك بصرى من أرض الشام يدعوه إلى الإسلام ، فما كان من ملك بصرى شرحبيل بن عمرو الغساني إلا أن قتل رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ كان هذا هو أول رسول له يقتل على خلاف ما جرت العادة من إكرام الرسل وعدم التعرض لهم .

فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس للخروج ومقاتلة الروم حتى يضع حدا لهذه التصرفات الهمجية ولأجل تأديبهم ، وسرعان ما اجتمع عند النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف مقاتل ، فعقد الراية لثلاثة منهم وجعل إمرتهم بالتناوب ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن أصيب زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة ) رواه البخاري ومسلم ، فتجهز الناس وخرجوا ، وكان ذلك يوم الجمعة من السنة الثامنة للهجرة النبوية ، فلما ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسلموا عليهم ، بكى عبد الله بن رواحة فقالوا : ما يبكيك يا ابن رواحة فقال : " أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا } ( مريم : 71 ) فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود ؟ ".  

فقال المسلمون : " صحبكم الله ، ودفع عنكم ، وردكم إلينا صالحين ، فأجابهم عبد الله بن رواحة :

           لكنني أسأل الرحمن مغفرة       وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
           أو طعنة بيدي حران مجهزة        بحربة تنفذ الأحشاء والكبــدا
          حتى يقال إذا مروا على جدثي      أرشده الله من غاز وقد رشدا


وأوصى النبي  صلى الله عليه وسلم صحابته قائلا : ( اغزوا باسم الله وفي سبيل الله ،  وقاتلوا من كفر بالله . اغزوا ولا تغدروا ، ولا تغلوا ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ولا أصحاب الصوامع ) رواه أحمد وغيره من أصحاب السنن .

وسار المسلمون حتى نزلوا معانا - اسم قرية - من أرض الشام ، فبلغهم أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم ، وانضم إليه مائة ألف أخرى من القبائل العربية الموالية له كلخم ، وجذام ، وبلقين ، وبهراء ، فاجتمع لهرقل مائتي ألف مقاتل ، فعقد المسلمون مجلسا للتشاور ، فقال بعضهم : نكتب للنبي صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدونا ، فإما أن يمدنا بالرجال ، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له ، وقال آخرون :  قد وطئت البلاد وأخفت أهلها ، فانصرف ؛ فإنه لا يعدل العافية شيء . و عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ساكت ، فسأله زيد عن رأيه فقال : يا قوم والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له تطلبون الشهادة ، ما نقاتل الناس بعدد ، ولا عدة ، ولا كثرة ، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين ، إما ظهور ، وإما شهادة ، فقال الناس : صدق والله ابن رواحة ، فمضوا حتى إذا قاربوا البلقاء - منطقة بالشام - ، لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية يقال لها مشارف ، فدنا العدو وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها : مؤتة وتسمى اليوم بالكرك ، فالتقى الناس عندها ، فتجهز المسلمون وجعلوا على ميمنة الجيش قطبة بن قتادة رجل من بني عذرة ، وعلى الميسرة أنصاري يقال له عبادة بن مالك  .

والتحم الجيشان وحمي الوطيس ، واقتتلوا قتالا شديدا ، وقتل أول قادة المسلمين زيد بن حارثة رضي الله عنه ، مقبلا غير مدبر ، فأخذ الراية جعفر بن أبي طالب بيمينه ، وأخذ ينشد :

            يا حبذا الجنة واقترابها     طيبة وبارد شرابها
            والروم روم قد دنا عذابها  كافرة بعيدة أنسابها
                                علي إن لاقيتها ضرابها
 

فقطعت يمينه رضي الله عنه ، فأخذ الراية بشماله فقطعت ، فاحتضنها بعضديه حتى قتل رضي الله عنه ، فأخذ الراية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ، ثم تقدم بها على فرسه فجعل يستنزل نفسه ، ويقول :

             أقسمت يا نفس لتنزلن            لتنزلن أو لتكرهنه
             إن أجلب الناس وشدوا الرنة       ما لي أراك تكرهين الجنة
             قد طال ما قد كنت مطمئنة        هل أنت إلا نطفة في شنة

  وقال أيضا :

يا نفس إلا تقتلي تموتي   هذا حمام الموت قد صليت

        وما تمنيت فقد أعطيت     إن تفعلي فعلهما هديت

ولما نزل أتاه ابن عم له بقطعة لحم ، فقال : اشدد بها صلبك ، فإنك قد لقيت أيامك هذه ما لقيت ، فأخذه من يده ، فنهش منه نهشة ، ثم سمع تدافع الناس للقتال فقال : وأنت في الدنيا ! ثم ألقاه من يده ، وأخذ سيفه ، فتقدم فقاتل حتى قتل ، ثم أخذ الراية ثابت بن أرقم بن ثعلبة الأنصاري  فقال : يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم ، فقالوا : أنت فقال : ما أنا بفاعل ، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد .

  وقد سارع الوحي إلى إبلاغ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحداث المعركة ، فعن أنس رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا و جعفرا و ابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال : (أخذ الراية زيد فأصيب ، ثم أخذها جعفر فأصيب ، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب - وعيناه تذرفان - حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله ، حتى فتح الله عليهم ) رواه البخاري .

   وبعد أن استلم الإمرة خالد أراد أن ينقذ الجيش الإسلامي بطريقة تحفظ له كيانه وتبقي هيبته ، وقدر أن الحل يكمن بالانسحاب بعد إرهاب العدو وإيهامه بوصول إمدادات جديدة ، فصمد حتى الليل واستغل الظلام ليغير مراكز المقاتلين ، وحول الميسرة ميمنة ، والميمنة ميسرة ، والمؤخرة مقدمة والعكس ، وطلب من خيالة المسلمين اصطناع غبار وجلبة قوية ، فظن الروم أن المسلمين جاءهم مدد ، فخارت عزائمهم ، واشتد عليهم المسلمون حتى يقول خالد رضي الله عنه : لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية ، وهكذا نجح خالد في العودة بالجيش إلى المدينة بأقل خسارة ممكنة ، وقتل من الروم خلق كثير لا يعرف عددهم وكان في ذلك نصر كبير للإسلام والمسلمين .

ولما وصل خالد إلى المدينة ، أخذ بعض المسلمين في عتاب من فر في بداية المعركة ، فخشي أولئك من غضب الله ورسوله حتى هموا أن يركبوالبحر ، ثم قالوا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله ، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا ، فأتوه قبل صلاة الغداة فخرج فقال : (من القوم ) ؟ فقالوا : نحن الفرارون فقال : (لا ، بل أنتم الكرارون ، أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين ) فأتوه وقبلوا يده الشريفة .

هذه هي غزوة مؤتة تكاد تتفجر عظة وعبرة ، فما إن يقرأ القارئ هذه الأحداث إلا ويجد الإعجاب قد عقد لسانه ، فأي بشر هؤلاء ، يقفون بجيش قوامه ثلاثة آلاف مقاتل أمام جيش هائل قوامه مائتي ألف مقاتل ، إن تصورا سريعا للقوتين ليعطي نتائج حاسمة بانتصار الجيش الكبير على الجيش المقابل ، ومع ذلك يتقدم المسلمون على قلة عددهم ، وضعف عددهم - آلة الحرب - ليضربوا أعظم صور التضحية والفداء ، بل ولينتصروا على ذلك العدو ، في أعظم مهزلة يتعرض لها جيش الإمبراطورية الرومانية ، إن غزوة مؤتة بكل المقاييس العسكرية معجزة من المعجزات ، وكرامة من الكرامات ، لقد وضعت معركة مؤتة القاعدة العسكرية الإسلامية في مواجهة العدو ، فنحن لا نقاتل بعدد ولا عدة ولكن نقاتل بهذا الدين ، فإذا تمحض قتالنا نصرة لدين الله ، وقمنا - ما استطعنا - بما أوجبه الله علينا من الأخذ بالأسباب الظاهرة ، كان النصر حليفنا بإذن الله .

إن ما يتمتع به المسلم من حب البذل والتضحية بالنفس والمال في سبيل هذا الدين نابع من إيمانه بالله ويقينه بما عنده ، فهل تحيا في الأمة هذه البسالة ، وهل نستخلص من غزوة مؤتة - خاصة - وتاريخ المسلمين الجهادي - عامة - دروسا تزرع التضحية والفداء في قلوب فتيانه حتى يعود للأمة سابق مجدها وغابر عزها .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة