بين الراعي والرعية

3 2131

لما اشـتكى بعض أهل الكـوفة أميـرهم سـعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عزله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع أنه كان يعلم كذب تلك الشكوى، فسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - من السابقين الأولين إلى الإسلام، ومن العشرة المبشرين بالجنة، وفداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بوالديه. ومع ذلك رأى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن يعزله من الإمارة درءا للفتنة في المجتمع، وقطعا لمادة الجدل والقيل والقال. وحتى يعلم الناس أن عمر - رضي الله عنه - لم يعزل سعدا لما قيل عنه، فإننا نجده بعد سنوات لـما طعن يذكره في أهل الشورى الستة الذين يختارون الخليفة من بعده، ويقول بأنه: (لم يعزله عن عجز أو خيانة)(البخاري).

فانظر إلى فقه عمر وبعد نظره وعمق بصيرته، وحرصه على الاستقرار السياسي والتماسك الاجتماعي بين الراعي والرعية؛ فبمقدار الألفة والمحبة والثقة بين الطرفين يتحقق الاطمئنان والسلم الاجتماعي، وفي هذا الباب يقول النبي صلى الله عليه وسلم: خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم(أخرجه مسلم).

هذا الترابط الوثيق المبني على التراحم والشفقة وليس على المغالبة والمشاحنة: هو السبيل الوحيد لاستقرار المجتمع، وتماسك بنيانه؛ ولهـذا نرى النبي صلى الله عليه وسلم يقطع الطـريق علـى كل ما يكدر هذه الصلة، ويبين أن أساس العقد السياسي الذي تجتمع عليه الأمة هو التراضي والألفة؛ ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أم قوما وهم له كارهون، فإن صلاته لا تجاوز ترقوته(صححه الألباني)، فإذا كان هذا في إمامة الصلاة لعدد محدود من المسلمين، فكيف بالإمامة العظمى؟

ومن ألطف ما قرأته في هذا السياق ما رواه مسلم في صحيحه أن عبد الرحمن بن شماسة قال: أتيت عائشة – رضي الله عنها - أسألها عن شيء، فقالت ممن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر، فقالت: كيف كـان صاحبكـم - يعني معاوية بن خديج - لكم في غزاتكم هذه؟ فقال: ما نقمنا منه شيئا، إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير، والعبد فيعطيه العبد، ويحتاج النفقة فيعطيه النفقة. فقالت: أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي أن أخبرك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به(أخرجه مسلم).

فعمرو بن العاص - رضي الله عنه - عرف واجبه نحو رعيته فكان لهم نعم النصير والرفيق، وعائشة – رضي الله عنها - بكل إنصاف وتجرد تبين منهج الإسلام في ترسيخ أواصر الرحمة والشفقة السياسية؛ ولهذا كان شر الولاة الذي يحطم الناس بعنفه وشدته، وتحميله لهم ما لا يطيقون؛ فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن شر الرعاء الحطمة(أخرجه مسلم).

ومن الصور العملية الرائعة التي تحقق هذه الغاية العظيمة أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطب في رعيته قائلا: (ألا إني - والله - ما أرسل عمالي إليكـم ليضـربوا أبشـاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم؛ فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي؛ فوالذي نفسي بيده إذا لأقصنه منه. فوثب عمرو بن العاص - رضي الله عنه - فقال: يا أمير المؤمنين! أو رأيت إن كان رجل من المسلمين على رعية، فأدب بعض رعيته، أئنك لمقتصه منه؟ قال: إي والذي نفس عمر بيده إذا لأقصنه منه، أنى لي لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه؟ ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم)(أخرجه: أحمد)؛ ومن رقة عمر - رضي الله عنه - وشفقته على رعيته أنه استعمل رجلا من بني أسد على عمل، فدخل ليسلم عليه، فأتى عمر - رضي الله عنه - ببعض ولده فقبلـه، فقـال له الأسدي: أتقبـل هذا يا أميـر المؤمنين؟ فوالله ما قبلت ولدا لي قط! فقال عمر - رضي الله عنه -: فأنت – والله! – بالناس أقل رحمة، لا تعمل لي عملا، فـرد عهده. فعمـر - رضي الله عنه - في هذين النصين العزيزين كان واضحا في خطابه مع الولاة والرعية، حازما في رعاية حقوق الناس، حريصا على تعزيز كرامتهم وإنسانيتهم؛ فمهمة الوالي ليست التسلط والتطاول على الناس وسلبهم أموالهم؛ بل الإحسان إليهم، والحفاظ على حقوقهم، وإخراجهم من دواعي العبودية والذلة لغير الله تعالى؛ ولهذا توعد النبي صلى الله عليه وسلم الوالي الذي يعرض عن حقوق الناس، ويستهين بحاجاتهم، بقوله: ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة والمسكنة؛ إلا أغلق الله أبواب السماء دون حاجته وخلته ومسكنته(أخرجه أحمد).

ومن الأخبار العجيبة التـي تسـتحق التـأمـل والدراسـة، ما رواه أبو قبيل قال: (خطبنا معاوية - رضي الله عنه - في يوم جمعة فقال: إنما المال مالنا، والفيء فيؤنا، من شئنا أعطينا، ومن شئنا منعنا. فلم يرد عليه أحد. فلما كانت الجمعة الثانية قال مثل مقالته، فلم يرد عليه أحد. فلما كانت الجمعة الثالثة قال مثل مقالته، فقام رجل ممن شهد المسجد فقال: كلا، بل المال مالنا، والفيء فيؤنا، من حال بيننا وبينه حاكمناه بأسيافنا. فلما صلى أمر بالرجل فأدخل عليه، فأجلسه معه على السرير، ثم أذن للناس فدخلوا عليه، ثم قال: أيها الناس! إني تكلمت في أول جمعة فلم يرد علي أحد، وفي الثانية فلم يرد علي أحد، فلما كانت الثالثة أحياني هذا أحياه الله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيأتي قوم يتكلمون فلا يرد عليهم، يتقاحمون في النار تقاحم القردة، فخشيت أن يجعلني الله منهم، فلما رد هذا علي أحياني أحياه الله، ورجوت أن لا يجعلني الله منهم)(أخرجه أبويعلي وحسنه الألباني).

فانظر إلى سرعة فيء معاوية - رضي الله عنه - ورجوعه إلى الصواب وإنصافه من نفسه، واعترافه بالحق أمام رعيته دون استنكاف أو تكبر.

الخلاصة:
أإن الوالي بهذا المفهوم أجير عند الناس، يسعى في حاجاتهم ويحوطهم برعايته ومسؤوليته، وهذا ما فهمه أبو مسلم الخولاني، رحمه الله؛ فقد دخل على معاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهما – وقال: السلام عليك أيها الأجير! فقال الناس: الأمير يا أبا مسلم! ثم قال: السلام عليك أيها الأجير! فقال الناس: الأمير! فقال معاوية: دعوا أبا مسلم هو أعلم بما يقول.

قال أبو مسلم: (إنما مثلك مثل رجل استأجر أجيرا فولاه ماشيته، وجعل له الأجر على أن يحسن الرعية، ويوفر جزازها وألبانها، فإن هو أحسن رعيتها ووفر جزازها وألبانها حتى تلحق الصغيرة، وتسمن العجفاء؛ أعطاه أجره وزاد من قبله زيادة. وإن هو لم يحسن رعيتها، وأضاعها حتى تهلك العجفاء، وتعجف السمينة، ولم يوفر جزازها وألبانها؛ غضب عليه صاحب الأجر، فعاقبه ولم يعطه الأجر)(حلية الأولياء 2/125).

لكن متى تتحقق هذه الشفقة من الراعي؟
إنها الشفقة التي هي محصلة صدق الراعي في أداء الأمانة، وإخلاصه في خدمة رعيته؛ ذلك أن غش الرعية والتفريط في حقوقها بالغ الخطورة وخيم العاقبة، كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة(أخرجه مسلم).

وكما جاء فيه أيضا من قوله صلى الله عليه وسلم: ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح؛ إلا لم يدخل معهم الجنة(أخرجه مسلم). وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخاف على أمته من بعض الأئمة المضلين، فقال: إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين(أخرجه أبو دواد).

وإمامة الضلال ها هنا جامعة لكل من يقود الناس إلى غير الطريق المستقيم والسبيل السوي الذي يصلح به حال الدين والدنيا، ولن تكون تلك القيادة موفقة مسددة إلا إذا كان شرع الله هو المنهاج الذي يعتصم به الرعاة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن انفرد السلطان عن الدين، أو الدين عن السلطان، فسدت أحوال الناس) (السياسة الشرعية لابن تيمية 460)..

تأمل هذا كله ثم قارنه بتلك القطيعة المتجذرة والفجوة الهائلة في عالمنا العربي بين كثير من الحكومات وشعوبها، فهي علاقة تأسست بنيتها السياسية على الأثرة والأنانية والأهواء الشخصية، وصيغ نسيجها الاجتماعي على التنافر والتعانف. ولا أجد لذلك تفسيرا يوضحه إلا الغش والخيانة التي تتدثر بها بعض الأنظمة والحكومات، التي لم تلتفت إلى مصالح الشعوب ولم تقدر حقوقهم وتطلعاتهم .

وإن تعجب فلن ينقضي عجبك عندما ترى استئثار بعض الرؤساء بالسلطة، وتضحيتهم بحقوق الشعب وبمقدرات الدولة، وبمستقبل الأجيال، مع أن أكثر الناس أعلنوا كراهيتهم ورفضهم له، ومع هذا فلا يرتد إليهم إلا صدى القمع والعناد والإصرار على البقاء في كرسي الحكم وإن كرهه من كرهه ومات من مات بسبب بغضه!

وسنة الله – تعالى – التي لا تتغير في جميع الفراعنه عبر التاريخ: أن علوهم في الأرض واستكبارهم فيها لا يتحقق إلا باستضعاف الناس وتفريق كلمتهم وازدراءهم والاستخفاف بهم، كما قال الله - تعالى -: {إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من الـمفسدين} [القصص:٤]، وقال - سبحانه وتعالى -: {فاستخف قومه فأطاعوه} [الزخرف:54].

لكـن سـنة الله – تعالى – أيضا لا تتبدل في أمثال هؤلاء؛ فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله – عز وجل – يملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالـمة إن أخذه أليم شديد} [هود:102]) (أخرجه البخاري).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وغاية مريد الرياسة أن يكون كفرعون، وجامع المال أن يكون كقارون، فقال تعالى: {أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق} [غافر:21]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحمد الصويان (البيان:284)

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة