اللغات الأجنبية وأثرها على الهوية الإسلامية

4 1138

 

ميدان الفكر والثقافة من أهم ميادين الصراع المحتدم بين الحق والباطل، وقد برزت المواجهة الفكرية أكثر فأكثر في العصر الحاضر بعد أن خفت صوت الأسلحة نسبيا، وما تزال دول البطش والاستكبار تشن حروبها على الدول والبلدان، وتغرق العالم بزبدها الخاثر وسيلها الجارف؛ لتشكيل العقول وفق النمط الذي تريد.
ولما كان للغة أثرها البالغ في صياغة التفكير، وتشكيل الثقافة، بذل المستخرب ما في وسعه لعزل لغة المسلمين عن واقعهم وتهميشها في حياتهم؛ بتعمد إقصائها وإشاعة اللهجات الأجنبية والعامية المحلية محلها؛ حتى يهيمن الغزو الفكري على اللغة والمعتقد والفكر والسلوك.
وكثير من البلدان الإسلامية تئن من هذا الأسر والقيد الفكري بالجبر والتسيير الثقافي المفروض؛ ولا أدل ذلك من اعتماد كثير من الدول الإسلامية اللغات الأجنبية في مدارسها وإعطائها الأولوية على العربية في المراحل الأولية والنهائية من التعليم.
وليست المشكلة في تعلم هذه اللغات بقدر ما هي المشكلة في ضعف الإرادة، وسلبية الفكر، واختلال المقاييس، واضطراب الموازين المتمثل في العجز عن اعتماد لغة الأمة لغة أولى؛ لها الأولوية في كل المجالات.
والمعركة اللغوية التي يخوضها الغرب الغالب مع الشعوب الإسلامية المغلوبة هي في الحقيقة حرب لغوية وفكرية وعقائدية في آن واحد، جذرها: الصراع بين الحق والباطل.
ويخطئ من يظن أن اللغة وسيلة خطاب وتواصل فقط، بل اللغة عنصر مهم من عناصر تشكيل الهوية؛ ذلك أن الألفاظ لها دورها وأثرها، في نمط الفكر.
ومما يدعو للأسى والأسف أن تجد بعض أبناء جلدتنا إن أخطؤوا في لفظ أو كتابة كلمة بلغة من اللغات الأجنبية المنتشرة ونبهوا لذلك أبدوا أسفهم واعتذارهم، وإن حصل الخطأ نفسه مع لغتهم الأم (العربية)؛ تجدهم لا يبالون؛ بل بعضهم يتباهى قائلا: لا أحسن العربية.
والهدف من وراء فرض اللغات الأجنبية علينا هو هجر اللغـة العربيـة، ومـن ثم الجهـل بالـدين، ثم ضعـف الشعور بالانتماء إليه، ولكي لا تبقى للمسلمين لغة توحدهم وتجمعهم؛ فتذوب هويتهم وتسهل السيطرة عليهم.
ويجب إنشاء مؤسسات لدعم اللغة؛ فالجهود الفردية وإن كانت مهمة فإنها تبقى محدودة الأثر، وإمكانات الأفراد مهما بلغت، سوف تبقى دون مستوى مواجهة المشكلة التي تواجهها الأمة بدعم من الدول الساعية إلى فرض هيمنتها الفكرية على الشعوب المستضعفة؛ فالمواجهة لا بد أن يكون طرفها دولة وراءها أفراد؛ حتى تكون مواجهة متكافئة.
ولقد أصبح من الضرورة بمكان وضع خطة واضحة دقيقة لأسلمة العلوم وتعريبها من أجل الحفاظ على لغة الأمة التي هي جزء من هويتها؛ مثلما فعل الغربيون مع الحضارة الإسلامية؛ حيث نقلوها إلى لغاتهم، ودرسوها لأبنائهم بلغاتهم حفاظا عليها وسدا لباب انتشار العربية ببلدانهم.
كما لا بد أن تقوم دراسات ناقدة ببيان أثر هذه اللغات على الناشئة، وتضع خطة لترشيد المتعلمين وتحذيرهم من السموم الفكرية والأخلاقية التي تحتويها كثير من نصوص المقررات التعليمية، والتي يراد من خلالها زحزحة عقيدة أبناء الأمة تحت ذريعة تعلم اللغة.
فمن أشرب لغة في صباه فإنه يشرب أيضا ثقافتها وجذورها، ويحاكي أهلها ولو نأت به الديار؛ لذا نجد الولاء لدى بعض الناشئة للبلدان الأجنبية أكثر من ولائهم لوطنهم وأمتهم.
لقد آن للأمة أن تنفك من قيود التحكم الثقافي، والمعسكر الفكري الذي عطل فاعلية أمة المسلمين اليوم، وشل نشاطها في التجديد والابتكار. ومن البشائر التي نسمعها اليوم نداآت ومطالبات لاعتماد العربية لغة رسمية في المدارس ببعض البلدان الأجنبية؛ شعورا من المغتربين في المهجر بالخطر الذي يهدد أبناءهم. وتمثل تلك المطالبات حركة وعي، وهي ثمرة من ثمار الصحوة الإسلامية المعاصرة اليوم.
ولما شعر الغرب ببداية صحوة، ورأى لغته مهددة عمد إلى إنشاء أبواق تدعو إلى لهجات محلية، ووضع لذلك مؤسسات ومتخصصين يتولون الدعوة والتنفيذ؛ فالمشكلة لم تعد مشكلة لغة فحسب؛ ولكنها في الحقيقة مشكلة فكر وتبعية وانقياد أعمى في شتى الجوانب.
والتوازن الفكري واللغوي أمر لا بد منه في المعادلة لفرض الذات، وبقدر هذا التوازن تكون القوة والقدرة على العطاء الإنساني الذي يكسب الاحترام والوجود المتميز. والناشئة من أبنائنا أحوج في هذا العصر أكثر من أي عصر مضى، إلى أن يرتبطوا بلغتهم حبا وولاء.
فهل يليق بنا الحفاظ على لغات الآخرين وثقافاتهم وإهمال لغتنا وثقافتنا، وحفظ زبدهم وتضييع نفعنا؟ إن من رضي بذلك فقد غالط طبيعة الأشياء، ورضي لنفسه أن يكون تابعا ذليلا بلا مبدأ ولا منهج؛ فالحفاظ على اللغة العربية حفاظ على الدين والتاريخ والهوية.
انظر كيف هو الصراع قائم بين دول كبرى بسبب اللغة؛ كل دولة تسعى لبسط لغتها أكثر في مختلف الأصقاع؛ وترصد لذلك ميزانيات ضخمة؛ لما للغة من أثر في الهيمنة والتبعية.
إن ثمة بعض الشاذين فكريا يظنون أن اللغات الأجنبية سمة تقدم وازدهار؛ بينما هي تبعية وتنكر للهوية؛ فكيف يحافظ الإنسان الصيني والياباني على لغته؛ ويحرص على فرضها في مختلف المحافل والمناسبات، ويتنكر العربي للغته التي هي لغة قرآنية ربانية، ويحسبها وصمة عار على لسانه إن هو تفوه بها.
إن إهمال العربية تنتج عنه سلبيات شتى، يكفي من ذلك ما قاله الرافعي: ما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار، ومن هنا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضا على الأمة المستعمرة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاما ثلاثة في عمل واحد:
أما الأول: فحبس لغتهم في لغته سجنا مؤبدا.
وأما الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقتل محوا ونسيانا.
وأما الثالث: فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها؛ فأمرهم من بعدها لأمره تبع.
ونحن بهذا لا نريد أن نغمط حق أي شخص في تعلم أي لغة، ولا أن نقلل من شأنها، لكن بضوابط وقيود؛ خاصة أولئك الذين يتعلمونها لحاجات تعوزهم لذلك.
وما أسلفناه لا يعني أن تعلم لغات الآخرين مذموم إطلاقا، بل هو مطلوب ومرغب فيه؛ لكن مع المحافظة على اللغة العربية لغة القرآن؛ فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم لغة يهود فتعلمها في خمسة عشر يوما وفي هذا دليل على جواز تعلم أي لغة عندما تقتضي الحاجة ذلك.
والمنطق السليم يقتضي أن لا ينتقل إلى أي لغة إلا بعد إتقان اللغة الأم؛ فكيف يستساغ أن يسعى المسلم لإتقان لغة غير لغته، فيبذل قصارى جهده في تعلمها، و يهمل في الوقت نفسه لغته.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة