- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:دراسات قرآنية
يذكر علماء أصول الفقه أن الألفاظ قوالب للمعاني المستفادة منها؛ فتارة تستفاد منها من جهة النطق تصريحا، وتارة من جهته تلويحا، فالأول يسمى دلالة المنطوق، والثاني يسمى دلالة المفهوم. و(المفهوم) ينقسم إلى مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة. فمفهوم الموافقة حيث يكون المسكوت عنه موافقا للملفوظ به، فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به، فيسمى فحوى الخطاب، وإن كان مساويا له، فيسمى لحن الخطاب.
والحديث هنا قاصر على دلالة مفهوم الموافقة بقسميه، فماذا يقصد بدلالة المفهوم، وما هي أمثلته من القرآن؟
تعريف دلالة مفهوم الخطاب
يعرف مفهوم الموافقة بأنه: فهم المعنى من اللفظ المنطوق فهما أولويا أو مساويا. فقولك: أكرم زيدا، ولو أساء، فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف، تقديره: أكرم زيدا، لو أحسن، ولو أساء، إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه - وإن أساء - على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى.
والمثال القرآني الأبرز على مفهوم الموافقة الأولوي، قوله تعالى: {فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما} (الإسراء:23)، فالآية دالة بمنطوقها على حرمة التأفف في وجه الوالدين، ودالة بمفهومها الأولوي على حرمة ضربهما؛ لأن الضرب أشد إيذاء للوالدين.
والمثال القرآني الأبرز على مفهوم الموافقة المساوي، قوله سبحانه: {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا} (النساء:10)، فالآية دالة بمنطوقها على حرمة أكل أموال اليتامى، ودالة بمفهومها على حرمة إحراقها، وحرمة الإحراق مساوية لحرمة الأكل؛ إذ كلا الأمرين إتلاف للمال.
وبجملة مختصرة، فإن مفهوم الخطاب (الموافقة) هو: أن يكون المنطوق به، والمسكوت عنه في حكم واحد. وقد يعبر بعض أهل الأصول على مفهوم الخطاب بـ (قياس الأولى).
المفسرون ومفهوم الخطاب
لا يفصل المفسرون القول في مفهوم الخطاب؛ لأن البحث في مسائله ليس من مباحث القرآن الكريم، بل هو من مباحث أصول الفقه، بيد أنهم يعتمدون عليه كثيرا في أثناء تفسيرهم لآيات الكتاب العزيز. فنجدهم يقولون مثلا: "هذا من مفهوم الخطاب، الذي المذكور فيه والمسكوت عنه حكمهما واحد"، و"هذا هو مفهوم الخطاب؛ إذ المسكوت عنه في حكم المذكور"، و"هذا يسمى مفهوم الخطاب، وهو أن يكون المذكور والمسكوت عنه في حكم واحد"، ونحو ذلك من العبارات.
دلالة المفهوم في القرآن
في القرآن الكريم كثير من الآيات التي فهم المراد منها وفق دلالة المفهوم، سواء في ذلك ما كان الحكم فيها أولويا، أو ما كان مساويا. وهذه بعض الأمثلة على ذلك، يستبين الأمر أكثر على ضوئها:
قوله سبحانه في خطاب بني إسرائيل: {ولا تكونوا أول كافر به} (البقرة:41)، منطوق الآية نهي الأولين من بني إسرائيل عن الكفر بما جاءهم من البينات والهدى، ويدخل في هذا النهي، بدلالة مفهوم الخطاب الثاني وغيره. قال ابن عطية: "حذروا البدار إلى الكفر به؛ إذ على الأول كفل من فعل المقتدي به".
قوله تعالى: {لا تأخذه سنة ولا نوم} (البقرة:255)، المراد بهذه العبارة من الآية الكريمة، أن الله تعالى لا تدركه آفة، ولا يلحقه خلل بحال من الأحوال، فجعل المذكور مثالا لما لم يذكر، وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع، وهذا مستفاد بدلالة مفهوم الخطاب. قال الطبري: "معناه: لا تحله الآفات والعاهات المذهلة عن حفظ المخلوقات، وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع". وقال أبو حيان: "المعنى: أنه تعالى لا يغفل عن دقيق، ولا جليل، عبر بذلك عن الغفلة؛ لأنه سببها".
قوله سبحانه: {ومن دخله كان آمنا} (آل عمران:97)، دلت الآية على منع المسلمين من قتال المشركين المحاربين عند المسجد الحرام، وتدل بمفهومها على منعهم من أن يقتلوا أحدا من المشركين دون قتال عند المسجد الحرام.
قوله سبحانه: {لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} (آل عمران:130)، منطوق الآية أن المحرم من الربا ما كان أضعافا مضاعفة، بيد أن القليل منه محرم أيضا بدلالة مفهوم الخطاب. إذ المسكوت عنه من الربا في حكم المذكور.
قوله تعالى: {ولا يظلمون فتيلا} (النساء:49)، منطوق الآية أنه لا يترك لأحد من الأجر ما يوازن مقدار الفتيل، ومفهومه الأولوي أنه لا يترك له من الأجر ما كان فوق ذلك، فيكون المعنى: لا يترك له من الأجر مهما كان قليلا، ومهما كان كثيرا.
ونحو ذلك قوله سبحانه: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} (الزلزلة:7)، فالآية أخبرت بمنطوقها، أن من يعمل عملا قليلا، يجده بين يديه يوم القيامة، وأخبرت بمفهومها أنه من يعمل فوق مثقال الذرة، فإنه يجده كذلك بين يديه يوم القيامة. فمعنى الآية: أن من يعمل ما فوق الذرة يراه، قليلا كان أو كثيرا. فنبه منطوق الآية على ما هو مسكوت، وهذا هو مفهوم الخطاب.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم} (النساء:135)، قال الآلوسي: "معناه: كونوا قائمين بالقسط، ولو كان الحق على غيركم، ولو كان عليكم، ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم فأوجبه؛ تنبيها على أن ما كان أسهل أولى بالوجوب". فالحكم بالقسط ولو على النفس واجب، ومن باب أولى وجوب الحكم بالقسط ولو على الغير.
قوله تعالى: {ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم} (النور:29)، أفادت الآية بمنطوقها جواز دخول البيوت غير المسكونة لمن كان له فيها متاع. وأفادت بمفهومها جواز دخولها لوضع المتاع. وكذلك جواز دخول المسافر، وإن لم يكن له فيها متاع؛ لقصد التظلل، أو الراحة، أو المبيت. كل ذلك مستفاد من دلالة مفهوم الخطاب.
قوله سبحانه: {مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء} (العنكبوت:41)، سياق الآية يفيد أنها خطاب لمشركي مكة، وتعلم مساواة غيرهم لهم في ذلك بدلالة مفهوم الخطاب، والقرينة الدالة على قراءة عامة القراء قوله في الآية التالية: {إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شيء} (العنكبوت:42).
قوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} (الشورى:25)، منطوق الآية يفيد أنه سبحانه يقبل توبة عباده الذين سيذنبون في المستقبل، بيد أن الآية أيضا دالة على قبول توبة الذين عملوا السيئات قبل نزول الآية؛ وذلك بدلالة مفهوم الخطاب. قال ابن عاشور: "في الآية بشارة للمؤمنين بأنه قبل توبتهم مما كانوا فيه من الشرك والجاهلية؛ فإن الذي من شأنه أن يقبل التوبة في المستقبل، يكون قد قبل توبة التائبين من قبل، بدلالة لحن الخطاب، أو فحواه".
قوله سبحانه: {لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء} (الحجرات:11)، منطوق الآية النهي عن أن يسخر قوم من قوم، أو نساء من نساء، ولم يقل: لا يسخر رجل من رجل، ولا امرأة من امرأة. ويفهم منه بدلالة مفهوم الخطاب، النهي عن أن يسخر أحد من أحد.
قوله سبحانه: {إن يتبعون إلا الظن} (الأنعام:116)، جيء بصيغة المضارع في قوله: {يتبعون}؛ للدلالة على أنهم سيستمرون على اتباع الظن، وما تهواه نفوسهم؛ وذلك يدل على أنهم اتبعوا ذلك من قبل، بدلالة مفهوم الخطاب.
والاعتماد على مفهوم دلالة الخطاب لم يقتصر عليه المفسرون في توضيح المراد من الآيات فحسب، بل ردوا استنادا إليه الأقوال الضعيفة التي فسرت بها بعض الآيات. فقوله تعالى: {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} (النور:30)، وقوله عز وجل أيضا: {ويحفظن فروجهن} (النور:31)، قال بعض أهل العلم: كل ما في القرآن من قوله: {ويحفظوا فروجهم}، المراد حفظها من الزنا، إلا التي في سورة النور، فالمراد بـ (الحفظ) حفظ النظر. ولم يرتض الرازي هذا التوجيه، قال: "وهذا ضعيف؛ لأنه تخصيص من غير دلالة، والذي يقتضيه الظاهر أن يكون المعنى حفظها عن سائر ما حرم الله عليه من الزنا والمس والنظر، وعلى أنه إن كان المراد حظر النظر، فالمس والوطء أيضا مرادان بالآية؛ إذ هما أغلظ من النظر، فلو نص الله تعالى على النظر، لكان في مفهوم الخطاب ما يوجب حظر الوطء والمس". وواضح كيف ضعف الرازي -اعتمادا على دلالة الخطاب- هذا القول، ووجه الآية على أساسها.