أوهام الجاهليّة الأولى: الطيرة والتشاؤم(1)

1 2757

عادة موغلة في القدم، ضاربة في أعماق التاريخ، ارتبطت ارتباطا مباشرا بمخاوف الإنسان من المجهول، وتوجسه من المفاجآت، وترقبه لحلول المصائب والفواجع، والأحزان والمكاره، وتنزل الأقدار التي يتمنى المرء خلافها، ويرجو ضدها، إنها عادة توقع حصول الشر، أو ما يعرف بالتشاؤم والتطير.

إنها تلك العادة الجاهلية التي نجحت في التسلل إلى النفوس الضعيفة المتذبذبة، واستطاعت أن تستغل أوهامها وظنونها، حتى تمكنت من جعل أصحاب تلك النفوس يلتمسون الخير ويربطون عزائمهم ويضعون قراراتهم بيد من لا يعقل من الحيوانات والطيور، ويرتكبون حماقات يتعجب المرء منها كزجر الطير والاستقسام بالأزلام، وغير ذلك مما يأباه العقل وتستهجنه الفطر السليمة ويتنافى مع الشرع.

فما هو التشاؤم؟ وما معنى التطير؟ وما هي صوره؟ وما وجه منافاته للعقيدة الصحيحة السليمة؟ وما الذي سجله التاريخ من مظاهر هذه العادة؟، سنحاول بإذن الله تعالى ومن خلال هذه السلسلة الإجابة على الأسئلة السابقة ومتعلقاتها

التشاؤم والتطير في اللغة والاصطلاح

مادة "التشاؤم" مأخوذة من الفعل  شأم، يقول صاحب تاج العروس: "الشؤم خلاف اليمن، ويقال شأم فلان أصحابه إذا أصابهم شؤم من قبله..ويقال تشاءم الرجل إذا أخذ نحو شماله وفي حديث عدي: ( فينظر أيمن منه وأشأم فلا يرى إلا ما قدم) رواه البخاري "،  وفي المعجم الوسيط: " تشاءم: تطير به وعده شؤما"، ويضيف الإمام ابن عبد البر: " الشؤم في كلام العرب: النحس"، وفي اصطلاح أهل الشرع لا يختلف المعنى كثيرا، فإنه يعني عندهم توقع حصول الشر مطلقا، والإمام ابن حجر يفسر الشؤم بقوله: " التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق".

أما التطير فهو مأخوذ من الطيرة بفتح الياء وتسكينها أحيانا، والمقصود به التشاؤم من الأشياء، كما قال ابن منظور في لسان العرب: " والطيرة بكسر ففتح والطيرة بسكون الياء ما يتشاءم به من الفأل الرديء، وفي الصحاح : تطيرت من الشيء وبالشيء، واطير معناه : تشاءم وأصله تطير . وقيل للشؤم : طائر وطير وطيرة"، وأما عند أهل الشرع فهو كما عبر عنه الإمام القرطبي: " الطيرة : أن يسمع الإنسان قولا ، أو يرى أمرا يخاف منه ألا يحصل له غرضه الذي قصد تحصيله"، وجاء في شرح صحيح مسلم للإمام النووي:" والتطير التشاؤم، وأصله الشيء المكروه من قول أو فعل أو مرئي"، ومبنى العلاقة بين كلمتي " الطيرة والتطير" هي العلاقة السببية، ووجه ذلك كما قال الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى : " التطير هو الظن السيء الذي في القلب , والطيرة هي الفعل المرتب على الظن السيء "، ويفيدنا صاحب الكشاف باستعمال الطيرة عند العرب في الخير والشر جميعا، ثم غلبة استعمالهم لهذه اللفظة في الشر : " الفأل والطيرة قد جاءا في الخير والشر ، واستعمال الفأل في الخير أكثر، واستعمال الطيرة في الشر أوسع".

والأصل في لفظة "الطيرة" ما كان يفعله العرب قبل بزوغ فجر الإسلام من عادة زجر الطير، وحاصلها أن المشرك إذا أراد السفر بكر إلى أوكار الطير فهيجها، فإن ذهبت عن يمينه تيامن وتفائل واستبشر خيرا ثم مضى في سفره، وإن ذهبت عن شماله تشاءم، ورده ذلك عن إمضاء أمره، يصور الإمام ابن القيم تلك العادة الجاهلية بقوله: "وأصل هذا أنهم كانوا يزجرون الطير والوحش ويثيرونها، فما تيامن منها وأخذ ذات اليمين سموه سانحا، وما تياسر منها سموه بارحا، وما استقبلهم منها فهو الناطح، وما جاءهم من خلفهم سموه القعيد، فمن العرب من يتشاءم بالبارح ويتبرك بالسانح، ومنهم من يرى خلاف ذلك"، وللعرب تسمية أخرى لعادة زجر الطيور –حسب كلام بعض أهل العلم- وهي: "العيافة" والتي جاء ذكرها في قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (العيافة والطيرة والطرق من الجبت) رواه أبوداوود، ومن القائلين بهذا المعنى الإمام ابن الأثير و الإمام ابن دقيق العيد والإمام ابن قتيبة وغيرهم.

وإذا كانت هذه هي حقيقة التطير وصورته، فإن مما يدخل في بابه دخولا أوليا عادة الاستقسام بالأزلام، والمذكورة في قوله تعالى: { وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق} (المائدة:3)، وقوله تعالى: { ياأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} (المائدة:90)، وهذه العادة اتخذت صورا متقاربة إلى حد كبير، أبسطها أن العرب في السابق إذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو نحوها من المقاصد كان يأتي بسهام ويضعها في جراب، ثم يكتب على بعضها: "أمرني ربي" ، وعلى بعضها "نهاني ربي" ، ويترك الباقي خالية من الكتابة ، ثم يضع يده في الجراب و يختار سهما، فإذا خرج السهم الذي فيه الأمر أقدم على العمل ، وإذا خرج النهي أمسك وأعاد ، وإن خرج ما ليس عليه كتابة استقسم مرة أخرى، وبذلك تتضح المقاربة الكبيرة بين فعل "زجر الطير" وبين عادة "الاستقسام بالأزلام".

العلاقة بين الطيرة والتشاؤم

يمكن القول أن الطيرة هي مظهر من مظاهر التشاؤم وصورة من صوره، فإذا كان مؤدى التشاؤم هو توقع حصول الشر مطلقا، فإن التطير –من حيث الأصل- يتعلق بتوقع حصول الشر حينما يذهب الطير ذات الشمال، ثم أطلق اللفظ على كل أمر يتوهم أنه سبب في لحاق الشر والضر فأصبح مرادفا للتشاؤم، كالتشاؤم بالمرئي: كرؤية الأعمى، أو النعل المقلوب، أو شاهد قبر، أو نحو ذلك، والتشاؤم بالمسموع: نحو سماع نعيق الغراب وصوت البوم، أو بسماع ما يسوء، نحو سماع أحدهم يقول لآخر: يا خسران، أو يا خائب، كذلك التشاؤم بمعلوم، ومن أمثلته التشاؤم بالرقم سبعة أو ثلاثة عشر، أو بيوم الأربعاء، أو الجمعة، أو بشهر صفر، وغير ذلك من الخرافات التي لا تليق بمسلم.

هل توجد علاقة بين الطيرة والتفاؤل ؟

إذا كانت الطيرة إجمالا تتعلق بتوقع حصول الشر، والفأل بحصول الخير، فكيف يمكننا فهم حديث النبي –صلى الله عليه وسلم-: ( لا طيرة وخيرها الفأل). قيل: يا رسول الله وما الفأل؟ قال: (الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم) متفق عليه؟، وما معنى قوله عليه الصلاة والسلام:( أصدق الطيرة الفأل) رواه أحمد؟.

في الواقع أن الطيرة والتفاؤل يشتركان من جهة ويختلفان من أخرى، أما الاشتراك فهو حاصل من جهة التأثير في القلب، ومن جهة الاستبشار والتيامن، وأما الاختلاف فهو من جهة أن الاستبشار الحاصل من طريق الطيرة فهو بشيء لا معول عليه -وهو حركة الطير- على نحو ينقص من توكل العبد على ربه تبارك وتعالى ، بينما الحال في التفاؤل أن يكون الأثر المعنوي الحاصل من سماع الكلمة الطيبة كائن من جهة تقوية العزم ورجاء الخير والحض على صالح الأعمال، ثم إنه لا ينقص من معاني التوكل المطلوب، ولا تفضي بصاحبها إلى المعصية أو الشرك، ولذلك كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يعجبه الفأل الحسن ويكره الطيرة.

يقول الإمام ابن القيم: " وهذا الذي جعله الله سبحانه في طباع الناس وغرائزهم من الإعجاب بالأسماء الحسنة والألفاظ المحبوبة وهو نظير ما جعل في غرائزهم من الإعجاب بالمناظر الأنيقة، والرياض المنورة، والمياه الصافية، والألوان الحسنة، والروائح الطيبة، والمطاعم المستلذة، وذلك أمر لا يمكن دفعه ولا يجد القلب عنه انصرافا، فهو ينفع المؤمن ويسر نفسه وينشطها، ولا يضرها في إيمانها وتوحيدها، وأخبر صلى الله عليه وسلم- أن الفأل من الطيرة وهو خيرها، فأبطل الطيرة وأخبر أن الفأل منها ولكنه خيرها، ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد، ونفع أحدهما ومضرة الآخر، ونظير هذا منعه من الرقية بالشرك وإذنه فيها إذا لم تكن شركا؛ لما فيها من المنفعة الخالية عن المفسدة".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة