أوهام الجاهليّة الأولى: الطيرة والتشاؤم (4)

0 2383

أمر ليس من التشاؤم المنهي عنه

مر معنا من قبل ذكر التشاؤم وبيان حقيقته وذكر صوره في الماضي والحاضر، وبين يدينا ظاهرة طبيعية رصدها علماء الطبيعة منذ عدة قرون قد يكون فيها اشتباه وتوهم بما قد نهي عنه من الطيرة والتشاؤم.

يمكننا أن نعبر عن هذه الظاهرة بـ"متلازمة ما قبل الزلازل والبراكين"، وحاصلها أن العلماء وبالاستقراء والتتبع وجدوا أن المناطق التي تتعرض للكوارث الطبيعية والهزات الأرضية والانفجارات البركانية يحدث فيها تغير مفاجيء يطرأ على سلوك الحيوانات والطيور وبعض الهوام والحشرات.

يتحدث المراقبون وشهود العيان عن خروج للديدان من الأرض ومفارقة الطيور لأعشاشها، ومغادرة الأفاعي والعقارب لجحورها، وهيجان يصيب الأنعام بمختلف أنواعها، ونزوح جماعي للحيوانات إلى المناطق المرتفعة، وصعود الحيتان إلى سطح البحر ومغادرتها الأعماق.

والسؤال هنا: إذا قدر لأحد أن يرى هذه المشاهد فأصابه القلق والتوجس، وترقب نزول البلاء وحلوله، وربما أحجم عن البقاء في تلك الأرض، أيمكن أن يقال عن هذا الإحجام وذلك القلق بأنه من جملة المحرمات، وأنه داخل في حد التشاؤم المنهي عنه؟

لمعرفة الجواب على هذا السؤال ينبغي علينا أن نعود إلى ما قاله أرباب الشريعة وعلماء الطبيعة معا، لنجد أن تعريف التشاؤم هو: " سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق"، فالمنهي عنه أن يكون الظن السيء حاصل بغير سبب حقيقي يقتضيه، كما أن الطيرة هي: " أن يسمع الإنسان قولا ، أو يرى أمرا يخاف منه ألا يحصل له غرضه الذي قصد تحصيله"، فإذا أراد الإنسان أن يستوطن أرضا مشهورة بالنشاط البركاني أو واقعة في خط الزلازل، فـ"رأى" أو "سمع" تلك الأحوال غير المعهودة التي ذكرناها آنفا، فخاف ألا يحصل له مقصوده من الاستيطان والسكنى فغادر المكان، فهل الظاهرة التي نتكلم عنها هي من هذا القبيل؟

يأتي الجواب في ثنايا كلام علماء الطبيعة حينما يفسرون هذه الظاهرة، فإنهم يذكرون أن الله سبحانه وتعالى قد وهب تلك المخلوقات قدرات مذهلة تفوق ما عند الإنسان في مجال الاستشعار، والدراسات تؤكد أن حواسها قدارة على التقاط الذبذبات الضعيفة التي تحدثها الموجات الزلزالية والانفجارات البركانية القادمة من بطن الأرض؛ ولذلك نجد أن تفاعلها مع هذه الذبذبات يأتي في أوقات سابقة لحصول الكارثة في حين يتعذر على الإنسان إدراكها بحواسه الضعيفة، فسبحان من خلق فأبدع!.

ونستنتج من ذلك أن الإنسان قد استفاد من معرفة هذه الأحوال بأن جعلها مؤشرا حقيقيا للكارثة قبل وقوعها، الأمر الذي يساعده على الفرار والنجاة بنفسه قبل فوات الأوان، فشتان بين الموقف من هذه الظاهرة وبين زجر الطيور الذي لا حقيقة له، وبينها وبين التشاؤم المجرد من الاقتران بين السبب والمسبب، والأثر والمؤثر.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة