- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:أحوال القلوب
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير ولد آدم أجمعين،وبعد:
تكلمنا في مقالين سابقين عن بعض علاجات الهموم، وهذا المقال الأخير الذي نكمل فيه الحديث عما تيسر من أسباب علاجها وهي:
السابع عشر : معرفة القيمة الحقيقية للحياة وأنها قصيرة وأن الوقت أغلى من أن يذهب في الهم والغم.
فالعاقل يعلم أن حياته الصحيحة حياة السعادة والطمأنينة وأنها قصيرة جدا ، فلا ينبغي له أن يقصرها بالهم والاسترسال مع الأكدار فإن ذلك ضد الحياة الصحيحة ، فيشح بحياته أن يذهب كثير منها نهبا للهموم والأكدار ولا فرق في هذا بين البر والفاجر ، ولكن المؤمن له من التحقق بهذا الوصف الحظ الأوفر ، والنصيب النافع العاجل والآجل . وينبغي أيضا إذا أصابه مكروه أو خاف منه أن يقارن بين النعم الحاصلة له دينية أو دنيوية . وبين ما أصابه من مكروه فعند المقارنة يتضح كثرة ما هو فيه من النعم ، واضمحلال ما أصابه من المكاره وكذلك يقارن بين ما يخافه من حدوث ضرر عليه ، وبين الاحتمالات الكثيرة في السلامة منها فلا يدع الاحتمال الضعيف يغلب الاحتمالات الكثيرة القوية وبذلك يزول همه وخوفه ، ويقدر أعظم ما يكون من الاحتمالات التي يمكن أن تصيبه ، فيوطن نفسه لحدوثها إن حدثت ، ويسعى في دفع ما لم يقع منها وفي رفع ما وقع أو تخفيفه.
الثامن عشر : ومن الأمور النافعة عدم السماح بتراكم الأعمال والواجبات.
وذلك بحسمها في الحال والتفرغ للمستقبل ، لأن الأعمال إذا لم تحسم اجتمع عليك بقية الأعمال السابقة ، وانضافت إليها الأعمال اللاحقة ، فتشتد وطأتها ، فإذا حسمت كل شيء في وقته تفرغت للأمور المستقبلة بقوة تفكير وقوة عمل.
وينبغي أن تتخير من الأعمال النافعة الأهم، فالأهم وميز بين ما تميل نفسك إليه وتشتد رغبتك فيه، فإن ضده يحدث السآمة والملل والكدر ، واستعن على ذلك بالفكر الصحيح والمشاورة ، فما ندم من استشار ، وادرس ما تريد فعله درسا دقيقا ، فإذا تحققت المصلحة وعزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين.
التاسع عشر: التوقع المستمر والاستعداد النفسي لجميع الاحتمالات.
فإن الإنسان إذا استحضر في نفسه فقد عزيز أو مرض قريب أو وقوعا في دين أو قهر عدو أو أي احتمال سيئ مما لم يحدث بعد - مع استعاذته بالله من ذلك ورجاء السلامة - فإنه لو وقع له شيء من ذلك حقيقة سيكون أهون عليه وأخف وطأة لتوقعه المسبق.
ومما ينبغي التنبه له أن كثيرا من الناس من ذوي الهمم العالية يوطنون أنفسهم عند وقوع الكوارث والمزعجات على الصبر والطمأنينة . لكن عند الأمور التافهة البسيطة يقلقون ، ويتكدر الصفاء ، والسبب في هذا أنهم وطنوا نفوسهم على الأمور الكبار ، وتركوها عند الأمور الصغار فضرتهم وأثرت في راحتهم فالحازم يوطن نفسه على الأمور الصغيرة والكبيرة ويسأل الله الإعانة عليها ، وأن لا يكله إلى نفسه طرفة عين فعند ذلك يسهل عليه الصغير ، كما سهل عليه الكبير ويبقى مطمئن النفس ساكن القلب مستريحا.
العشرون: الشكوى إلى أهل العلم والدين وطلب النصح والمشورة منهم.
فإن نصائحهم وآراءهم من أعظم المثبتات في المصائب. وقد شكى الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يلقون من تعذيب...
فهذا خباب بن الأرت رضي الله عنه يقول: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة قلنا له: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون".
وكذلك شكا التابعون إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الزبير بن عدي : أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج فقال: اصبروا فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم.
فيسمع المسلم من أهل العلم والقدوة ما يسليه ويخفف عنه آلام غمومه وهمومه.
ومن هذا الباب أيضا: اللجوء إلى إخوان الصدق والأقرباء العقلاء والأزواج والزوجات الأوفياء والوفيات، فهذه فاطمة رضي الله عنها لما أصابها الهم شكت إلى زوجها علي رضي الله عنه كما روى القصة عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة رضي الله عنها فوجد على بابها سترا فلم يدخل ، قال: وقلما كان يدخل إلا بدأ بها، فجاء علي رضي الله عنه فرآها مهتمة فقال: ما لك؟ قالت جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلي فلم يدخل! فأتاه علي رضي الله عنه فقال:يا رسول الله إن فاطمة اشتد عليها أنك جئتها فلم تدخل عليها، قال: "وما أنا والدنيا وما أنا والرقم ( أي النقش والرسم ) فذهب إلى فاطمة فأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يأمرني به قال قل لها فلترسل به إلى بني فلان". [ وكان سترا موشيا ] (أي مزخرفا منقوشا).
والرجل ذو العقل الراجح والرأي السديد يزيل الهم.
وقد حكي عن المغيرة مولى الوليد قال: دخلت على الوليد فوجدته مهموما فقلت: مالك يا أمير المؤمنين مهموما؟ فقال: إنه قد كثر المسلمون وقد ضاق بهم المسجد، فأحضرت النصارى وبذلت لهم الأموال في بقية هذا الكنيسة لأضيفها إلى المسجد فيتسع على المسلمين فأبوا: فقال المغيرة: يا أمير المؤمنين عندي ما يزيل همك، قال: وما هو ؟ قلت: الصحابة لما أخذوا دمشق دخل خالد بن الوليد من الباب الشرقي بالسيف، فلما سمع أهل البلد بذلك فزعوا إلى أبي عبيدة ( وكان يحاصرها من الباب الآخر ) يطلبون منه الأمان فأمنهم وفتحوا له باب الجابية، فدخل منه أبو عبيدة بالصلح فنحن نماسحهم ( أي نقيس ) إلى أي موضع بلغ السيف ( أي فتح بالقوة ) أخذناه، وما بالصلح تركناه بأيديهم، وأرجو أن تدخل الكنيسة كلها في العنوة فتدخل في المسجد، فقال الوليد: فرجت عني، فتول أنت ذلك بنفسك، فتولاه المغيرة ومسح من الباب الشرقي إلى نحو باب الجابية إلى سوق الريحان فوجد السيف لم يزل عمالا حتى جاوز القنطرة الكبيرة بأربع أذرع وكسر، فدخلت الكنيسة في المسجد، فأرسل الوليد إلى النصارى فأخبرهم وقال: إن هذه الكنيسة كلها دخلت في العنوة فهي لنا دونكم، فقالوا: إنك أولا دفعت إلينا الأموال وأقطعتنا الإقطاعات فأبينا فمن إحسان أمير المؤمنين أن يصالحنا .. ونحن نترك له بقية هذه الكنيسة، فصالحهم ... ( البداية والنهاية في سيرة الوليد ).
الحادي والعشرون: أن يعلم المهموم والمغموم أن بعد العسر يسرا ، وأن بعدالضيق فرجا
فليحسن الظن بالله فإنه جاعل له فرجا ومخرجا، وكلما استحكم الضيق وازدادت الكربة قرب الفرج والمخرج .
وقد قال الله تعالى في سورة الشرح: {فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا}[الشرح:5-6]، فذكر عسرا واحدا ويسرين فالعسر المقترن بأل في الآية الأولى هو العسر في الآية الثانية أما اليسر في الآية الثانية فهو يسر آخر غير الذي في الآية الأولى.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما: "واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا".
الثاني والعشرون: ومن علاجات الهموم ما يكون بالأطعمة.
فقد روى البخاري رحمه الله عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تأمر بالتلبين للمريض وللمحزون على الهالك وكانت تقول إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن التلبينة تجم فؤاد المريض وتذهب ببعض الحزن".
وروى رحمه الله أيضا عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن إلا أهلها وخاصتها أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت ثم صنع ثريد فصبت التلبينة عليها ثم قالت كلن منها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن".
والتلبينة: هي حساء يعمل من دقيق أو نخالة ويجعل فيه عسل، وسميت تلبينة لشبهها باللبن ، وهي تطبخ من الشعير مطحونا .
ومعنى مجمة : أي تريح وتنشط وتزيل الهم.
وروى أحمد رحمه الله عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قيل له: إن فلانا وجع لا يطعم الطعام، قال: "عليكم بالتلبينة فحسوه إياها فوالذي نفسي بيده إنها لتغسل بطن أحدكم كما يغسل أحدكم وجهه بالماء من الوسخ".
ورواه الترمذي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ أهله الوعك أمر بالحساء فصنع ثم أمرهم فحسوا منه وكان يقول:"إنه ليرتق ( وفي رواية أحمد وابن ماجة : ليرتو ) فؤاد الحزين ويسرو عن فؤاد السقيم كما تسرو إحداكن الوسخ بالماء عن وجهها"
ويرتو أو يرتق : أي يشد ويقوي، ويسرو: أي يكشف.
وهذا الأمر - وإن استغربه بعض الناس - هو حق وصدق ما دام قد ثبت من طريق الوحي عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ، والله خلق الأطعمة وهو أعلم بخصائصها وبالتالي فإن حساء الشعير المذكور هو من الأغذية المفرحة ، والله أعلم.
أما عن طريقة طبخه لمريض الجسد ومحزون القلب فيقول ابن حجر رحمه الله : ولعل اللائق بالمريض ماء الشعير إذا طبخ صحيحا وبالحزين ماؤه إذا طبخ مطحونا والله أعلم.
وبعد هذه الجولة في العلاجات نتوقف عند تلخيص ابن القيم رحمه الله ذكر فيه خمسة عشر نوعا من الدواء يذهب الله بها الهم والغم والحزن وهي:
الأول: توحيد الربوبية.
الثاني: توحيد الإلهية.
الثالث: التوحيد العلمي الاعتقادي ( وهو توحيد الأسماء والصفات).
الرابع: تنزيه الرب تعالى عن أن يظلم عبده ، أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك .
الخامس: اعتراف العبد بأنه هو الظالم.
السادس: التوسل إلى الرب تعالى بأحب الأشياء ، وهو أسماؤه وصفاته ، ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات: الحي القيوم.
السابع: الاستعانة به وحده .
الثامن: إقرار العبد له بالرجاء .
التاسع: تحقيق التوكل عليه ، والتفويض إليه ، والاعتراف له بأن ناصيته في يده ، يصرفه كيف يشاء ، وأنه ماض فيه حكمه ، عدل فيه قضاؤه .
العاشر: أن يرتع قلبه في رياض القرآن ، ويتعزى به عن كل مصيبة ، ويستشفي به من أدواء صدره، فيكون جلاء حزنه ، وشفاء همه وغمه .
الحادي عشر: الاستغفار.
الثاني عشر: التوبة.
الثالث عشر: الجهاد.
الرابع عشر: الصلاة.
الخامس عشر: البراءة من الحول والقوة وتفويضهما إلى من هما بيده.
نسأل الله تعالى أن يعافينا من الهموم وأن يفرج عنا الكروب ويزيل عنا الغموم إنه هو السميع المجيب، وهو الحي القيوم.