ضرورة في القلوب

0 1466

لقد تظاهرت الآيات القرآنية، وتواترت الأحاديث النبوية، وشهدت الفطر المستقيمة، واتفقت كلمة المسلمين على أن الله - سبحانه تعالى - فوق سماواته، مستو على عرشه، بائن من خلقه، ينزل ملائكته بالروح من أمره على من يشاء من عباده. قال - سـبحانه تعـالى -: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش} [يونس: ٣]، وقـال - سـبحانه وتعالى -: {الرحمن على العرش استوى} [طه: ٥]، وقال - سبحانه تعالى -: {يخافون ربهم من فوقهم} [النحل: 50]، وقال - سبحانه -: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالـح يرفعه} [فاطر: 10]، وقـال في عبـده المسـيح - عليـه الصلاة والسلام -: {بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما} [النساء: 158]، إلى غير ذلك من نصوص القرآن، جل قائله وتعالى منزله.

أما الأحاديث فهي كثيرة جدا وأشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر، وقد ذكر الحافظ الذهبي - رحمه الله - في كتاب العلو أكثر من مائة حديث صحيح، تدل دلالة ظاهرة على علو الله - تعالى - على عرشه، ويكفي المنصـف من ذلك أحاديث النزول؛ فإنها متواترة رغم أنف كل معطل؛ كما قال الذهبي وابن القيم والألباني، وقد جمعها الحافظ الذهبي في جزء مفرد، ويكفي المنصف أيضا أحاديث معراجه صلى الله عليه وسلم إلى السموات العليا حتى وصل إلى سدرة المنتهى ورأى من آيات ربه الكبرى إن في ذلك لآية لكل ذي لب، وكفاية لمن له قلب.

 ونحن سنذكر للقارئ حديثا واحدا؛ لأن المقام ليس مقام بسط الأدلة وإنما غرضنا الإشارة، وهو حديث صحيح رواه مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم، ولا يشك في صحته إلا من كان في قلبه زيغ. ومن أراد المزيد؛ فليطالع (كتاب العلو) للذهبي و (اجتماع الجيوش الإسلامية) لابن القيم؛ ففيهما ما تنشرح له الصدور وتطمئن له القلوب.

عن معاوية بن الحكم السلمي قال: كانت لي غنم بين أحد والجوانية فيها جارية لي، فأطلعتها ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب منها بشاة، وأنا رجل من بني آدم، فأسفت؛ فصككتها؛ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟ قال: ادعها. فدعوتها فقال لها:أين الله؟ قالت: في السماء. قال:من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال:أعتقها؛ فإنها مؤمنة.

قال الحافظ الذهبي - رحمه الله - معلقا على هذا الحديث: (وهكذا رأينا كل من يسأل: أين الله؟ يبادر بفطرته ويقول: في السماء؟
ففي الخبر مسألتان:
إحداهما: شرعية قول المسلم: أين الله؟
ثانيتهما: قول المسؤول: في السماء. فمن أنكر هاتين المسألتين فإنما ينكر على المصطفى صلى الله عليه وسلم)[العلو/ 18].

إن صفة العلو قبلة للقلوب، ومهوى للأفئدة، ومستقر للأرواح. قال الإمام أبو محمد الجويني (والد أبي المعالي) مبينا أثر عقيـدة العلـو في قلـب المؤمـن بهـا: (العبـد إذا أيقن أن الله - تعالى - فوق السماء عال على عرشه بلا حصر ولا كيفية، صار ذلك لقلبه قبلة في صلاته وتوجهه ودعائه، ومن لا يعرف ربه بأنه فوق سماواته على عرشه؛ فإنه يبقى ضائعا لا يعرف وجهة معبوده بخلاف من عرف أن إلهه الذي يعبده فوق الأشـياء، فإذا دخل في الصلاة وكبـر توجه قلبه إلى جهة العـرش منزها ربه - تعالى - عن الحصر)[ انظر رسالته في الاستواء في مجموعة الرسائل المنيرية: (1/177).]

فإذا قال المؤمن: يا رباه! قام بقلبه رب قيوم قائم بنفسه مستو على عرشه ترفع إليه الأيدي، ويصعد إليه الكلم الطيب، وتعرج الملائكة والروح إليه، وينزل الوحي من عنده، ويقف العباد بين يديه.

وهذه ضرورة من الضرورات، تهجم على النفوس فلا تستطيع ردها ولا يسعها إنكارها؛ كما قال الشيخ العارف أبو جعفر الهمداني مخاطبا أبا المعالي الجويني (وقد كان أبو المعالي حينذاك ينكر صفة العلو): (هل عندك للضرورات من حيلة؟ فقال: ما تريد بهذا القول؟ وما تعني بهذه الإشارة؟ قال أبو جعفر: ما قال عارف قط: يا رباه! إلا قبل أن يتحرك لسانه، قام من باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة يقصد الفوق؛ فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة؟ فنبئنا نتخلص من الفوق والتحت. قال أبو جعفر: فبكيت وبكى من حولي فضرب الأستاذ أبو المعالي بكمه على السرير وصاح: يا للحيرة وكان بعد ذلك يقول حيرني الهمداني)[ كتاب العلو، ص 27].
وكانت حيرة أبي المعالي هذه قبل استقراره على مذهب السلف؛ بل لعلها كانت المنطلق إلى هذا الاستقرار الذي أبان عنه في الرسالة النظامية.

قريب في علوه... علي في دنوه:
وهو - سبحانه - قريب في علوه، علي في دنوه وقربه، يقترب من عباده كيف شاء، و يقرب إليه من عباده من شاء، ويدني إليه من يشاء، وأقرب ما يكون العبد منه إذا كان ساجدا بين يديه، أو كان داعيا رافعا إليه يديه، أو كان العبد محسنا كأنه يراه بين يديه.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: (وإن عسر على فهم اجتماع الأمرين فإنه يوضح ذلك معرفة إحاطة الرب وسعته، وأنه أكبر من كل شيء، وأن السموات السبع والأرضين في يده كخردلة في كف العبد، وأنه يطوي سمواته السبع بيده، ويقبض الأرضين باليد الأخرى ثم يهزهن؛ فمن هذا شأنه كيف يعسر عليه الدنو ممن يريد الدنو منه وهو على عرشه، وهذا يوجب لك فهم اسمه الظاهر والباطن)[ (مختصر الصواعق)، ص 449.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
عماد الصامت (البيان 281)

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة