الوعي بالواقع.. الأهمية والشروط 2/2

0 881

يحتاج علم الوعي بالواقع وفقهه إلى شيئين مهمين:
1 - سعة الاطلاع: نظرا لتشعب هذا العلم وشموله؛ فقد يحتاج المتخصص فيه إلى كثير من الفنون، سواء العلوم الشرعية: كالعقيدة والفقه، أو العلوم الاجتماعية كالتاريخ، أو العلوم المعاصرة: كالسياسية والإعلام... وهلم جرا. وإذا قصر في أي علم من هذه العلوم أو غيرها مما يحتاج إليه، فسينعكس ذلك سلبا على قدرته على فقه الواقع، وتقويم الأحداث، والحكم عليها.

2 - التجدد والاستمرار: إن هذا العلم يحتاج إلى قدرة فائقة على المتابعة، والبحث في كل جديد؛ فهو يختلف عن كثير من العلوم كما بينت آنفا؛ لذا ينبغي للمتخصص أن يكون لديه دأب فلا يكل من متابعة الأحداث، ودراسة أحوال الأمم والشعوب؛ فلو انقطع عن ذلك فترة من الزمن أثر ذلك على تحصيله وقدرته في فهم مجريات الأحداث وتقويمها؛ فهو أشبه بالطبيب الذي عليه أن يتابع كل جديد في مهنته؛ فلو أن طبيبا تخرج في الجامعة منذ عشر سنوات، وكان يعالج الناس من خلال دراسته الماضية، دون النظر لما استجد من مخترعات في وسائل العلاج، وما اكتشف من أدوية، لأصبح طبيبا متخلفا عن الركب؛ فجديد اليوم يصبح قديما في الغد وهكذا.

ولا أبالغ إذا قلت: إن الذي ينقطع عن متابعة الأحداث بضعة أشهر يحتاج إلى فترة مكثفة ليتمكن من ملاحقة الأحداث من جديد، وبخاصة في عصرنا الحاضر، الذي أصبح فيه العالم كقرية واحدة صغيرة؛ ما يقع في شرقه يؤثر يوميا في غربه، وإذا وقع حادث ذو بال في أمريكا أثر على أسواق اليابان في اليوم نفسه، وارتفاع الأسهم في (وول ستريت) بلندن، يؤثر على قيمة الفول في البرازيل. 

الآثار المترتبة على تجاهل فقه الواقع:
إذا تجاهلت الواقع تماما فربما فاتك:
1 - سد الذرائع: وهي قاعدة أصيلة وركن ركين من أركان الشريعة، فقد تقع في كثير من الزلل بسبب عدم النظر في المآلات. والنظر في المآلات معتبر شرعا وبه تصح الفتوى.

2 - اعتبار المناط الخاص: فكل رسول يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإيجاب الفرائض والنهي عن المحرمات.وهناك محرمات أبدية خالدة لا تختلف من رسالة إلى أخرى، وهناك فرائض لا تخلو منها رسالة، ومع ذلك نجد أن القرآن يركز على قضايا معينة في رسالات معينة. والرسول - صلى الله عليه وسلم - في سبيل بيان القواعد الشرعية يتنـاول كل المحـرمات وكل الفرائض ويضعها في مكانها الصحيح في نطاقها الديني. وفي معالجة الانحرافات الواقعية ينشغل بقضايا معينة هي الانحرافات القائمة بالفعل لا غيرها؛ بحيث تكون هي ودعوة التوحيد صلب حواره معهم، وذلك في مثل قوله - تعالى -: {وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا الـمكيال والـميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط * ويا قوم أوفوا الـمكيال والـميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين * بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ} [هود: ٤٨ - ٦٨]، ومثل هذا مع قوم لوط، مع اختلاف الانحرافات.

يقول الشاطبي في الموافقات: فمن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل في أوقات مختلفة عن أفضل الأعمال وخيرها، وعرف بذلك في بعض الأوقات من غير سؤال؛ فأجاب بأجوبة مختلفة، كل واحد منها لو حمل على إطلاقه أو عمومه لاقتضى مع غيره التضاد في التفضيل؛ ففي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الأعمال أفضل؟ فقال: إيمان بالله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور، وسئل - صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها. قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله.

وفي النسائي عن أبي أمامة: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: مرني بأمر آخذه عنك، قال: عليك بالصوم؛ فإنه لا مثل له، وفي الترمذي: أي الأعمال أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات، وفي البزار: أي العبادة أفضل؟ قال: دعاء المرء لنفسه، وفي الترمذي أيضا: ما من شيء أفضل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وفي الصحيح: وما أعطي أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر، وفي الترمذي كذلك: خيركم من تعلم القرآن وعلمه، وفيه: أفضل العبادة انتظار الفرج... إلى أشياء من هذا النمط، جميعها يدل على أن التفضيل ليس بمطلق، ويشعر إشعارا ظاهرا بأن القصد إنمـا هو بالنسـبة للوقت أو إلى حال السائل؛ وقد دعا - صلى الله عليه وسلم - لأنس بكثرة المال فبورك له فيه، وقال لثعلبة: قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه[الطبراني]، وقال لأبي ذر: يا أبا ذر! إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي؛ لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم[رواه مسلم]. ومعلوم أن كلا العملين من أفضل الأعمال لمن قام فيه بحق الله، وقد قال في الإمارة والحكم: إن الـمقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن[رواه مسلم]، وقال: أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة[رواه أبو داود]، وفي الصحيح: أن أناسا جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقـالوا: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلـم به. قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم! قال: ذلك صريح الإيمان، وفي حديث أخر: من وجد من ذلك شيئا فليقل: آمنت بالله، وعن ابن عباس في مثله قال: إذا وجدت شيئا من ذلك، فقل: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} [الحديد: ٣] فأجاب بأجوبة مختلفة والعارض كله واحد. وقبل - صلى الله عليه وسلم - من أبي بكر ماله كله، وندب غيره إلى استبقاء بعضه وقال: أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خير لك[البخاري].

وعن أبي رجاء العطاردي قال: قلت للزبير بن العوام: ما لي أراكم - يا أصحاب محمد - من أخف الناس صلاة ؟ قال: نبادر الوسواس. هـذا مع أن التطـويل مستحب ولكـن جاء ما يعارضه... إلخ[الموافقات للشاطبي].

ويعرف الشاطبي هذا المناط الخاص، فيقول: هو نظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائـل التكليفية؛ بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان ومداخل الهوى والحظوظ العاجلـة؛ حتى يلقيها (يقصد التكاليف) هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل، هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره، ويختص غير المنحتم بوجه آخر: وهو النظر فيما يصلح بكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص؛ إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزن واحد كما أنها في العلوم والصنائع كذلك[الموافقات 4/98].

3 - تجاهل الواقع ربما أدى إلى تقديم الإسلام للناس في صورة نظرية مجردة لا ترتبط ارتباطا وثيقا بالحياة والسلوك اليومي: وهذا على العكس من طريقة القرآن: {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا} [الإسراء: ٦٠١] الذي أخرج للناس عقيدة من خلال حركة الجماعة وأحداثها وصراعها مع غيرها ونموها وتفاعلها مع نفسها وغيرها... وأخرج للناس جماعة من خلال تأصيلات العقيدة وتوجيهاتها. فربط بين الحدث والتوجيه ربطا دقيقا مع الحفاظ على تجرد توجيهات العقيدة وقوة تأصيلها إذا ما أردت أن تستخلصها من التنزيل. وهذا أمر في منتهى الأهمية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد خيري (البيان272)

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة