كيف نقرأ القرآن؟

0 1222

بدا لي أن أتوقف رمضان هذا عن التفكير في (ختم المصحف) مؤقتا، وأن أجعل همي مراقبة تأثير القراءة على قلبي، ومدى تفاعلي وانفعالي مع السياقات القرآنية، ورأيت أن أشرك أحبتي هذه الملحوظات المهمة.

الملحوظة الأولى
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في العام الذي توفي فيه: "إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضور أجلى".

في هذا الحديث لفتات جميلة:
أولها: عناية الله بالقرآن الكريم وحفظه: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}[الحجر: 9]؛ لأنه كلمة الله الأخيرة لأهل الأرض، المهيمن على الكتب السابقة، والبيان لما يعرض للناس إلى يوم القيامة، والمشتمل على أسس الخير والهداية والنواميس والسنن الإلهية، ولذلك تكفل الله تعالى بحفظه في الصدور وحفظه في السطور.

الثانية: ختم القرآن سنة، ولذا أرشد صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما إلى أن يختم في كل شهر وانتهى إلى ثلاثة أيام، وكان الصحابة رضي الله عنهم يحزبون القرآن، فيختمون في أسبوع، وغالبا ما يكون هذا في قيام الليل، ولما سئلوا عن هذا التحزيب قالوا: ثلاث سور، وهي البقرة وآل عمران والنساء، ثم خمس، ثم سبع، ثم تسع ، ثم إحدى عشرة، ثم ثلاث عشرة، ثم المفصل من ق إلى الناس.

فمن السنة أن يختم القرآن في شهر رمضان، وله بكل حرف حسنة، ولئلا يكون شيء من القرآن مهجورا، ولكن الأجر مرتب على:
١-الوقت الذي تمضيه في القراءة.
٢-جودة القراءة وإتقانها.
٣-التأثر ولين القلب، والاستجابة لدعوة القرآن، وهذا المقصد الأسنى والأسمى من التنزيل.

دع القرآن يهزك من أعماقك هزا، ويثير أشجانك، ويحرك مشاعرك، ويداوي جراحك، دعه يخاطب عقلك بالأدلة ويحاصره بالبراهين، دعه ينتقل بك إلى الماضي فيمر بك عبر القرون والأجيال والأمم ومصائر الصادقين ومصارع الغابرين، ويمر بك في الحاضر فيبين لك الأسباب والعلل والسنن، وينقلك إلى المستقبل فيعطيك الوعد والرضا والقبول، ويبشرك ويمنحك الصبر والعزاء والسلوان ويرتحل بك إلى الآخرة، إلى السعة المطلقة، إلى الخلود، ويسمو بك إلى الأعلى فيحدثك عن الله -عز وجل- وأسمائه وصفاته وملائكته ومخلوقاته، ويفتح عقلك على ما لا تعلم {فلا أقسم بما تبصرون (38) وما لا تبصرون} [الحاقة: 38 - 39 ]، وردد مع الشاكرين: ربنا لك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد.

إن كنت فقيرا أو مريضا أو سجينا أو حزينا أو مكتئبا.. فهو ينقلك إلى عالم أفضل وأجمل ويصلك بالله العظيم، صاحب الفضل والجود والإنعام والكرم؛ الذي يغير ولا يتغير {كل يوم هو في شأن} [الرحمن:29].

قد لا تجد نفسك مهيئا للتدبر، وللنفس إقبال وإدبار، فاقرأ القرآن لأنك تؤجر عليه ولو بدون تدبر، ولكن الأجر مع التدبر يزيد أضعافا مضاعفة.

الملحوظة الثانية
روى الشيخان عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اقرأ على القرآن". قلت: "آقرأ عليك وعليك أنزل"، قال: "فإنى أحب أن أسمعه من غيري". فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (41) يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض} [النساء: 41 - 42]، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "حسبك الآن"، قال: "فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان".

دموع عزيزة تسيل على الوجنة الطاهرة من هول الموقف وجلاله ورهبته؛ لأنه سوف يدعى للشهادة، وتسيل رقة ورحمة بأمته، ولذلك يكون نداؤه آنذاك: "يا رب أمتي أمتي".

القارئ يكون منشغلا بالحروف أو بالحفظ أو التجويد، فأن تسمعه من الآخرين وخاصة من القراء المجودين والمتقنين والمبدعين فإن هذا عظيم التأثير، ولا زلت أذكر في طفولتي إنصاتي لمشيخة القراء المصرية من أمثال: الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والشيخ محمد رفعت، والشيخ المنشاوي، والشيخ الطبلاوي، ولا زالت تلك القراءة ترن في أذني إلى الآن.

الملحوظة الثالثة
روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إني خلوت بامرأة وأتيت منها ما يأتي الرجل من زوجته إلا أني لم أجامعها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أصليت معنا؟ قال: نعم. قال: اذهب فقد غفر لك. وأنزل الله تعالى قوله: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات} [هود: 114].

أستلهم من هذا الحديث العظيم إعجازا قرآنيا أن الإنسان -أحيانا- يسمع آية من القرآن صلى بها الإمام أو سمعها وهو مار في الطريق أو فتح المذياع فانطلقت إلى أذنه مباشرة، وتكون هذه الآية كأنما أرسلت له خاصة؛ لأنها تعالج وضعا شخصيا يعيشه هو.

شاب أخطأ على والدته وأغلظ لها الكلام، وخرج مغاضبا وفي الطريق وقف يصلي فقرأ الإمام: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما} [الإسراء: 23]، أحس ذلك الفتى أن الملك ألقى هذه الآية بالذات على فم الإمام من أجل أن يسمعها هو.

آخر ارتكب خطيئة وشعر بالبؤس، والحزن، والفقر، والهم، والغم .. ففتح المذياع فسمع مباشرة قول الله عز وجل: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر: 53].

ثالث شاهد نشرة الأخبار ووجد كل ما يؤلم قلبه ويمض فؤاده، دماء تسيل في بورما، وأخرى في سوريا، وقتلى في العراق، ومصائب في مصر، واستئثار العالم الإسلامي على وجه الخصوص بأن يكون منطقة اضطراب واحتراب، وتعجب من تسلط الظالمين والطغاة، ففتح المصحف فوجد آية أمامه تلوح: {لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد (196) متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد} [آل عمران: 196 - 197].

مثل هذا لا يعفي المؤمن من السعي للإصلاح، ولكنه يمنحه قدرا من الهدوء والسكينة والاسترواح.

الملحوظة الرابعة
روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".

القرآن يجعلك تعيش مع يوسف عليه السلام في الجب، ثم في القصر، ثم في السجن، ثم في منصة القيادة، ثم في الخاتمة الحسنة: {توفني مسلما وألحقني بالصالحين} [يوسف: 101].

ومع إبراهيم في طفولته وتفكره في الملكوت، وبحثه عن الله، وإيمانه، وصبره، وتضحيته، وجهاده، وخروجه من العراق إلى الشام إلى مصر إلى البيت العتيق، مع امتحانه ولده، {فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال ياأبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين (102) فلما أسلما وتله للجبين (103) وناديناه أن ياإبراهيم (104) قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين (105) إن هذا لهو البلاء المبين (106) وفديناه بذبح عظيم} [الصافات: 102 - 107].

مع مريم؛ الصديقة، القانتة، العابدة، النموذج النسائي الرائع العظيم، وهي تتبتل في محرابها والملائكة تدخل عليها، وهي تراهم وتسمع نداءهم وكلامهم: {يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (45) ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين} [آل عمران: 45 - 46].

مع موسى وهو يخرج من المدينة خائفا يترقب، أو يسمع نداء الله عز وجل، أو يدعو قومه إلى الدخول في الأرض المقدسة، فيتراجعون ويحجمون ويترددون ويجبنون ويقولون: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24]، فيتبرم بهم ويدعو عليهم: {فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين} [المائدة: 25].

ترى القيامة كأنها رأي عين، وتتصور نفسك ولا يعنيك أمر الناس: {لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس: 37]، أنت فرد ضمن هذه الجموع التي يموج بها ظهر الأرض، لا تكترث إلا للتساؤل عن شخصك ومصيرك والتفكير في ماضيك وهل يؤهلك للنجاة أم للعطب؟ {وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا} [الكهف: 99].

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة