- اسم الكاتب:الشبكة الإسلامية
- التصنيف:أسباب ورود الحديث
توطئة في: أهمية الفهم عن الله ورسوله:
إن حسن فهم مراد الله تعالى ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أعظم النعم التي يمن الله تعالى بها على من يشاء من عباده؛ فما أوتي أحد بعد الإيمان أفضل من الفهم عن الله وعن رسوله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء!
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب (الروح): "سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولاسيما إن أضيف إليه سوء القصد!".
وقد اكتملت شريعة الله سبحانه تعالى ببيان أصول الحلال والحرام بما جاء في نصوص القرآن والسنة كما قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي}[المائدة:3]، ولكن هذه النصوص تقصر أفهام كثير من الناس عن فهم دلالاتها والأحكام المستنبطة منها، وعن وجه الدلالة فيها على هذه الأحكام. وتفاوت الأمة في مراتب الفهم لهذه النصوص كبير جدا بحيث لا يحصيه إلا الله تعالى، فلو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقدام العلماء في العلم، ولما خص سبحانه سليمان بفهم القضية بين صاحب الحرث وأصحاب الغنم دون داود على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، مع أن الله تعالى قد أثنى عليهما بالعلم والحكمة، قال تعالى: {وكلا آتينا حكما وعلما} ولكن التوفيق في الفهم كان لسليمان في تلك القضية بخصوصها. وفي السياق نفسه قال عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه في كتابه إليه: "الفهم الفهم فيما أدلي إليك" رواه البيهقي في (السنن الكبرى). وقال علي: "... إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن" رواه البخاري في (صحيحه)، فبين علي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخص آل بيته ولا غيرهم، واستثنى موهبة من الله تعالى وهي الفهم المعين على الإدراك واستنباط المعاني، حيث تحصل الزيادة على ما عند الناس بذلك الاعتبار. وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس فقال: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"، وثم فرق بين الفقه والتأويل؛ فالفقه هو فهم المعنى المراد، والتأويل إدراك الحقيقة التي يؤول إليها المعنى، وليس كل من فقه في الدين كان عالما بالتأويل، فالعلم بالتأويل يختص به الراسخون في العلم.
وقد روى البخاري ومسلم في (صحيحيهما) عن أبي موسى رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن مثل ما بعثني الله به عز وجل من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ؛ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به". قال ابن القيم رحمه الله تعالى في (مفتاح دار السعادة): "شبه صلى الله عليه و سلم العلم والهدى الذي جاء به بالغيث لما يحصل بكل واحد منهما من الحياة والمنافع والأغذية والأدوية ...، وشبه القلوب بالأراضي التي يقع عليها المطر لأنها المحل الذي يمسك الماء فينبت سائر أنواع النبات النافع، كما أن القلوب تعي العلم فيثمر فيها ويزكو وتظهر بركته وثمرته، ثم قسم الناس إلى ثلاثة أقسام بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظه وفهم معانيه واستنباط أحكامه واستخراج حكمه وفوائده؛ أحدها: أهل الحفظ والفهم الذين حفظوه وعقلوه وفهموا معانيه واستنبطوا وجوه الأحكام والحكم والفوائد منه، فهؤلاء بمنزلة الأرض التي قبلت الماء، وهذا بمنزلة الحفظ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وهذا هو الفهم فيه والمعرفة والاستنباط، فإنه بمنزلة إنبات الكلأ والعشب بالماء، فهذا مثل الحفاظ الفقهاء أهل الرواية والدراية. القسم الثاني: أهل الحفظ الذين رزقوا حفظه ونقله وضبطه ولم يرزقوا تفقها في معانيه ولا استنباطا ولا استخراجا لوجوه الحكم والفوائد منه، فهم بمنزلة من يقرأ القرآن ويحفظه ويراعي حروفه وإعرابه، ولم يرزق فيه فهما خاصا عن الله ...، فهؤلاء بمنزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس فانتفعوا به؛ هذا يشرب منه وهذا يسقي وهذا يزرع. فهؤلاء القسمان هم السعداء. والأولون أرفع درجة وأعلى قدرا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. القسم الثالث: الذين لا نصيب لهم منه، لا حفظا ولا فهما ولا رواية ولا دراية، بل هم بمنزلة الأرض التي هي قيعان لا تنبت ولا تمسك الماء، وهؤلاء هم الأشقياء".
الطريق الصحيح لفهم دلالات الكتاب والسنة:
ومما ينبغي التنبه له أن الفهم عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا يتم تلقائيا بمجرد النظر المتعجل في نصوص الوحيين كما قد يظن بعض الناس، نعم بعض النصوص واضح الدلالة كالشمس في رابعة النهار كقوله تعالى: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} ولكن بعضها الآخر ليس كذلك، بل لا بد للوقوف على مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم منه من بذل جهد واستكمال لآلة النظر، وهذا ليس بالأمر الهين خاصة في هذه العصور المتأخرة التي ضعفت فيها الهمم والملكات العلمية والقدرات اللغوية.
فلابد للناظر في نصوص الوحيين أولا من الإيمان المطلق بأن تلك النصوص معصومة، وأن في الاستسلام لها السعادة في الدنيا والنجاة في الآخرة.
ولابد ثانيا من سلامة القصد وإحضار النية في ابتغاء الحق عند نظر المجتهد في تلك النصوص.
ثم لابد ثالثا من استكمال آلة الاجتهاد واستيفاء الشروط التي يذكرها العلماء فيمن ينظر في نصوص الوحيين لاستنباط ما تدل عليه من حكم وأحكام.
ومن أهم ما يفهم به النص معرفة سبب نزوله إن كان قرآنا، وسبب وروده إن كان حديثا؛ حيث إن الوقوف على سبب النزول وكذلك سبب الورود يجعل الباحث مدركا لحقيقة المعنى وأبعاده، ومنتبها لوجه الارتباط بين النص والحكم المستنبط منه، والحكمة التي تكون في هذا الارتباط، وهذا يعين المجتهدين في كل عصر على إدراك تحقق العلة في كل من الفرع والأصل عند القياس، كما ييسر على المجتهدين الوقوف على ظهور الحكمة عند استنباط الأحكام للمشكلات الحادثة والنوازل المعاصرة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى): "ومعرفة سبب النزول يعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب؛ ولهذا كان أصح قولي الفقهاء أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف رجع إلى سبب يمينه وما هيجها وأثارها".
قال الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه (كيف نتعامل مع السنة النبوية) بتصرف: "لابد لفهم الحديث فهما سليما دقيقا من معرفة الملابسات التي سيق فيها النص وجاء بيانا لها وعلاجا لظروفها، حتى يتحدد المراد من الحديث بدقة ولا يتعرض لشطحات الظنون أو الجري وراء ظاهر غير مقصود.
ومما لا يخفى أن علماءنا قد ذكروا أن مما يعين على حسن فهم القرآن معرفة أسباب نزوله حتى لا يقع فيما وقع فيه بعض الغلاة من الخوارج وغيرهم، ممن أخذوا الآيات التي نزلت في المشركين وطبقوها على المسلمين، ولهذا كان ابن عمر يراهم شرار الخلق بما حرفوا كتاب الله عما أنزل فيه.
فإذا كانت أسباب نزول القرآن مطلوبة لمن يفهمه أو يفسره، كانت أسباب ورود الحديث أشد طلبا؛ ذلك أن القرآن بطبيعته عام وخالد، وليس من شأنه أن يعرض للجزئيات والتفصيلات والآنيات إلا لتؤخذ منها المبادئ والعبر. أما السنة فهي تعالج كثيرا من المشكلات الموضعية والجزئية والآنية، وفيها من الخصوص والتفاصيل ما ليس في القرآن ... والنظر إلى السياق والملابسات والأسباب تساعد على سداد الفهم واستقامته لمن وفقه الله، ومن الأمثلة التي تبين أهمية العلم بأسباب ورود الأحاديث وأثره في الفهم الصحيح: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" رواه مسلم. فهذا الحديث يتخذ منه بعض الناس تكأة للتهرب من أحكام الشريعة في المجالات الاقتصادية والمدنية والسياسية ونحوها لأنها ـــــ كما زعموا ـــــ من شؤون دنيانا، ونحن أعلم بها، وقد وكلها الرسول صلى الله عليه وسلم إلينا!! والوقوف على قصة هذا الحديث وسبب وروده يقطع الطريق على أولئك العلمانيين الكارهين للمشروع الإسلامي والرافضين الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية؛ فسبب ورود هذا الحديث هو قصة تأبير النخل، وإشارته عليه الصلاة والسلام عليهم برأي ظني يتعلق بالتأبير، وهو ليس من أهل الزراعة، وقد نشأ بواد غير ذي زرع، فظنه الأنصار وحيا أو أمرا دينيا، فتركوا التأبير، فكان تأثيره سيئا على الثمرة، فقال: إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن .. إلى أن قال: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" .. فهذه هي قصة الحديث".
ومما سبق يتبين لنا أهمية هذا العلم والفوائد المترتبة على العناية به في الوقوف على دلالات أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التعريف بعلم أسباب ورود الحديث:
هو علم يبحث فيه عن الأسباب الباعثة على ذكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لهذا الحديث ابتداء, وهذا السبب قد يكون سؤالا, وقد يكون حادثة, وقد يكون قصة, فيقول النبي- صلى الله عليه وسلم- الحديث بسببه أو بسببها.
التصانيف في هذا العلم:
هذا العلم من علوم الحديث النبوي الشريف، وقد صنف فيه العلماء لما وقفوا على أهمية المعرفة بأسباب نزول القرآن الكريم في فهم مراد الله تعالى من الآيات القرآنية المرتبطة بأسباب نزولها، فشرع بعض العلماء من أهل الحديث في تصنيف كتب تحوي أسباب ورود الحديث محاكاة لما دون في أسباب نزول القرآن الكريم، ملتزمين منهجا يقارب المنهج الذين انتهجه علماء التفسير وعلوم القرآن في تدوين أسباب نزول آيات القرآن الكريم.
وكان هذا العلم أول ما صنف فيه يذكر ضمن أنواع علوم الحديث كصنيع الإمام سراج الدين البلقيني في كتابه: (محاسن الاصطلاح) حيث قال: "النوع التاسع والستون: معرفة أسباب الحديث"، ثم صنفت فيه كتب مستقلة، منها الموجود ومنها المفقود، ومن أشهر الموجود المطبوع: كتاب: (اللمع في أسباب الحديث) للحافظ السيوطي ت911هـ، وكتاب: (البيان والتعريف في أسباب الحديث الشريف) لابن حمزة الحسيني ت1120هـ.
كيفية إدراك هذا العلم:
هذا، ولابد في إدراك أسباب النزول وأسباب الورود من الاعتماد على رواية الصحابي أو التابعي؛ فلا يحل القول في أسباب نزول آي الكتاب ورود أحاديث الرسول الكريم إلا بالرواية والسماع عمن شاهدوا التنزيل وعايشوا الوقائع والأحداث، ووقفوا على الأسباب؛ إذ لا مجال للعقل المجرد في الوقوف عليها. ولهذا كان لابد من جريان قوانين الرواية على ما يروى من أسباب لنزول القرآن أو لورود الأحاديث، من جهة التوثيق للروايات، ومن جهة التأليف بين مختلفها بالطرق العلمية المعروفة لدى علماء الحديث.
وهنا ينبغي التنبه إلى أن الأمر الذي أخبر الصحابي أنه الباعث على نطق رسول الله صلى الله عليه وسلم بألفاظ الحديث - هو الذي يطلق عليه سبب الورود. أما ذكر الصحابي للحديث فيما بعد ليستدل به في مناسبة من المناسبات فانه لا يسمى سبب ورود وإنما يسمى "سبب ذكر" ولا يعتبر سببا للورود, وفرق بين الأمرين.
أقسام الأحاديث بالنسبة إلى أسباب الورود:
تنقسم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث سبب الورود إلى قسمين:
الأول: ماله سبب قيل لأجله واقتضى وروده، والثاني: ما لا سبب له، وإنما قيل ابتداء.
ومن أمثلة القسم الثاني وهو ما سيق ابتداء بلا سبب ظاهر: ما رواه البخاري ومسلم في (صحيحيهما) عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.
وأما القسم الأول مما سيق لسبب استدعى نطق رسول الله تعالى به فهو موضوع بحثنا، ومن خلال بعض الأمثلة والنماذج التطبيقية نلقي الضوء على أسباب ورود أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليزداد بيانها لدى القارئ الكريم.