(كم) الخبرية والاستفهامية في القرآن

1 1828

يذكر نحاة العربية أن الأداة (كم) تأتي على معنيين: الأول: الإخبار عن أمر ما. والثاني: الاستفهام عن أمر ما. وقد وردت هذه الأداة في القرآن الكريم على كلا المعنيين. فلننظر في مواضع ورود هذه الأداة في القرآن. بادئين بالتعريف بنوعيها، وبيان أوجه الاتفاق والافتراق بينهما.

تعريف

(كم) الخبرية: هي التي تكون بمعنى (كثير)، وتكون إخبارا عن عدد كثير مبهم الكمية، كقولك: كم عالم رأيت!، أي: رأيت كثيرا من العلماء. فأنت هنا لا تستفسر عمن رأيت من العلماء، بل تخبر عن العدد الكثير من العلماء الذين رأيتهم؛ لذلك جاءت الجملة منتهية بأداة التعجب.

أما (كم) الاستفهامية فهي التي يستفهم بها عن عدد مبهم، كقولك: كم كتابا قرأت؟ وكم عالما جالست؟ فأنت هنا تستفهم عن عدد الكتب التي قرأتها، وعن عدد العلماء الذين جالستهم؛ لذلك جاءت الجملة منتهية بأداة الاستفهام.    

أوجه الاتفاق

تتفق (كم) الاستفهامية و(كم) الخبرية في خمسة أمور:

- كونهما كنايتين عن عدد مبهم مجهول الجنس والمقدار.

- كونهما مبنيتين.

- كون البناء على السكون.

- لزوم صدارة الكلام. فلا تأتيان في وسط الكلام.

- احتياجهما إلى التمييز لبيان ما أبهم فيهما. 

أوجه الافتراق

تفترق (كم) الاستفهامية و(كم) الخبرية في خمسة أمور أيضا:

- أن مميزيهما مختلفان إعرابا. فـ (الخبرية) مميزها يكون مفردا نكرة مجرورا بالإضافة إليها نحو: كم عمل أنجزت!" أو بـ (من)، نحو: كم من فقير ساعدت! ويكثر دخول (من) على مميزها، كما في قوله تعالى: {وكم من ملك في السماوات} (النجم:26). ويجوز أن يكون مميزها جمعا، تقول: كم علوم درست!

أما (كم) الاستفهامية فمميزها يكون مفردا منصوبا، تقول: كم كتابا قرأت؟ ولا يكون مميزها مجموعا.

- أن (كم) الخبرية تختص بالماضي، و(كم) الاستفهامية يستفهم بها عن الماضي وعن المستقبل.

- أن المتكلم بـ (كم) الخبرية لا يستدعي جوابا؛ لأنه مخبر، وليس بمستفهم. والمتكلم بـ (كم) الاستفهامية ينتظر جوابا.

- أن جملة (كم) الخبرية تفيد التصديق أو التكذيب، وجملة (كم) الاستفهامية لا تفيد ذلك؛ لأن الكلام الخبري يحتمل الصدق والكذب. ولا يحتملهما الكلام الاستفهامي؛ لأنه إنشائي.

- أن المبدل من (كم) الخبرية لا يقترن بهمزة الاستفهام، تقول: كم رجل في الدار! عشرة، بل عشرون، أما المبدل من (كم) الاستفهامية فيقترن بها، تقول: كم كتابا لديك؟ أعشرة، أم عشرون؟

وقد ذكر ابن عاشور أن الأصل في (كم) أنه اسم استفهام عن العدد، لكن شاع استعماله للإخبار عن كثرة الشيء على وجه المجاز؛ لأن الشيء الكثير من شأنه أن يستفهم عنه.

(كم) الخبرية والاستفهامية في القرآن

وردت (كم) بنوعيها في عشرين موضعا في القرآن الكريم، وقد جاءت في أغلب مواضعها تفيد (الأخبار)، حيث وردت في ستة عشر موضعا تفيد الأخبار، ووردت في أربعة مواضع فقط تفيد (الاستفهام). وإليك بيان هذه المواضع بنوعيها:

(كم) الخبرية في القرآن

قوله تعالى: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة} (البقرة:249)، قال ابن عاشور: (كم) خبرية لا محالة؛ إذ لا موقع للاستفهام، فإنهم قصدوا بقولهم هذا تثبيت أنفسهم وأنفس رفقائهم؛ ولذلك دعوا إلى ما به النصر، وهو الصبر والتوكل، فقالوا: {والله مع الصابرين}.

قوله سبحانه: {ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض} (الأنعام:6)، (كم) في الآية خبرية؛ لأن المعنى: ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم؛ أي: ألم يعرفوا ذلك. 

قوله عز وجل: {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا} (الأعراف:4)، أي: وكثير من القرى أهلكناها على حين غفلة منهم، فاعتبروا يا أولي الأبصار، كي لا يكون مصيركم كمصيرهم.

قوله تعالى: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح} (الإسراء:17)، (كم) في الآية خبرية، أي: كم من قوم كفروا حل بهم البوار.

قوله سبحانه: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا} (مريم:74)، (كم) في الآية خبرية؛ إذ المعنى: كم أهلك الله أهل قرون كثيرة، كانوا أرفه من مشركي العرب متاعا، وأجمل منهم منظرا. والمراد بهذه الصيغة تهديد أهل مكة وإنذارهم.

قوله عز وجل: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا} (مريم:98)، الآية هنا كسابقتها، والمراد منها تخويف لأهل مكة، وتذكير لهم بما فعله الله بالعديد من الأمم قبلهم.

قوله تعالى: {أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم} (طه:128)، (كم) هنا خبرية أيضا؛ إذا المعنى: أفلم يتبين لأهل مكة خبر من أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم، إذا سافروا وخرجوا في التجارة، فيرون بلاد الأمم الماضية، والقرون الخالية، والعروش الخاوية؛ أي: أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ما حل بالكفار قبلهم.

قوله سبحانه: {وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين} (الأنبياء:11)، (كم) في الآية خبرية، أي: لقد أهلكنا أقواما كثيرة، كانت قد عتت عن أمر ربها، وعصت رسله. قال ابن عاشور: وفي (كم) الدالة على كثرة العدد إيماء إلى أن هذه الكثرة، تستلزم عدم تخلف إهلاك هذه القرى. ووصف تلك الأمم بـ (الظلم)، أي: الشرك، إيماء إلى سبب الإهلاك، فحصل منه ومن اسم الكثرة معنى العموم، فيعلم المشركون التهديد بأن ذلك حال بهم لا محالة بحكم العموم، وأن هذا ليس مرادا به قرية معينة.

قوله عز وجل: {أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم} (الشعراء:7)، (كم) في الآية خبرية؛ إذ المراد تنبيه المعرضين على عظمته سبحانه وقدرته، وأنهم لو رأوا بقلوبهم ونظروا ببصائرهم، لعلموا أنه الذي يستحق أن يعبد؛ إذ هو القادر على كل شيء.

قوله تعالى: {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها} (القصص:58)، (كم) في الآية خبرية؛ إذ هي مخبرة عن الكافرين بأنعم الله، وهي تتضمن الإنكار والتوبيخ على من يكون على شاكلتهم، فإن ذلك يقتضي التعرض للانتقام شأن الأمم التي كفرت بنعم الله.

قوله سبحانه: {أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم} (السجدة:26)، (كم) خبرية هنا، ومعنى الآية على شاكلة معنى آية طه المتقدمة.

قوله عز وجل: {ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون} (يس:31)، قال القرطبي: معنى (كم) ها هنا الخبر؛ فلذلك جاز أن يبدل منها ما ليس باستفهام. والمعنى: ألم يروا أن القرون الذين أهلكناهم، أنهم إليهم لا يرجعون.

قوله تعالى: {كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص} (ص:3)، (كم) هنا خبرية أيضا، تفيد أن المهلكين من قبل كانوا كثيرين. والمراد تحذير المخاطبين من التريث عن إجابة دعوة الحق، أن ينزل بهم العذاب، فلا ينفعهم ندم ولا متاب، كما لم ينفع القرون من قبلهم. فالتقدير : سيجازون على عزتهم وشقاقهم بالهلاك، كما جوزيت أمم كثيرة من قبلهم في ذلك، فليحذروا ذلك، فإنهم إن حقت عليهم كلمة العذاب، لم ينفعهم متاب، كما لم ينفع الذين من قبلهم متاب عند رؤية العذاب. قوله سبحانه: {وكم أرسلنا من نبي في الأولين} (الزخرف:6)، (كم) هنا خبرية، والمراد بها التكثير؛ والمعنى: ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم السابقة.

قوله عز وجل: {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا} (ق:36)، (كم) هنا خبرية، أي: كم أهلكنا يا محمد قبل قومك من أمة، هم أشد منهم بطشا وقوة. والخبر تعريض بالتهديد بكفار قريش، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما أصابه من أذى قومه.

قوله تعالى: {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا} (النجم:26)، (كم) تفيد الإخبار هنا، والمراد توبيخ من عبد الملائكة والأصنام، وزعم أن ذلك يقربه إلى الله تعالى، فأعلم أن الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتهم على الله، لا تشفع إلا لمن أذن أن يشفع له.

(كم) الاستفهامية في القرآن

قوله عز وجل: {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة} (البقرة:211)، قال ابن عاشور: (كم) هنا (استفهامية)، كما يدل عليه وقوعها في حيز السؤال، فالمسؤول عنه هو عدد الآيات. وجوز صاحب "الكشاف" أن تكون (كم) خبرية، أي: فتكون ابتداء كلام، أي: سلهم عن حالهم في شكر نعمة الله، فبذلك حصل التقريع.

قوله سبحانه: {قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض} (البقرة:259)، (كم) هنا (استفهامية)، أي: كم مدة لبثت ميتا؟ وهو سؤال على سبيل التقرير.

قوله عز وجل: {قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم} (الكهف:19)، (كم) هنا (استفهامية) أيضا، فقد قال قائلهم مستفسرا عن مدة نومهم؛ وذلك أنهم استنكروا طول نومهم. ويقال: إنهم راعهم ما فاتهم من الصلاة، فقالوا ذلك.

قوله تعالى: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين} (المؤمنون:112)، (كم) هنا (استفهامية)، والاستفهام عن عدد سنوات المكث في الأرض مستعمل في التنبيه؛ ليظهر لهم خطؤهم؛ إذ كانوا يزعمون أنهم إذا دفنوا في الأرض، لا يخرجون منها.

أخيرا نلفت الانتباه إلى أمرين:

الأول: أن (كم) الخبرية هي الأكثر استعمالا في الخطاب القرآني، وأن استعمالها إنما يراد منه التكثير، أو التنبيه، أو التهديد، أو الإنكار والتوبيخ، أو التحذير، أو لفت الانتباه إلى حدث من أحداث الأمم المتقدمة.

الثاني: أن (كم) الاستفهامية أقل استعمالا في الخطاب القرآني. وأن الاستفهام من الله سبحانه ليس على حقيقته؛ لأنه سبحانه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وإنما جاء على سبيل التقرير، كما ألمحنا لذلك عند بيان الآيات التي جاءت فيها (كم) على سبيل الاستفهام.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة