دروس وعبر من غزوة أحد

1 2268

ملأ الخزي والعار قلوب قريش بعد هزيمتهم الكبيرة في بدر، وخافوا من ضياع هيبتهم وزعامتهم بين قبائل العرب، فدفعهم ذلك إلى محاولة الثأر والانتقام من المسلمين، ورد اعتبارهم، بالإضافة إلى أنه قديما وحديثا وعلى مر العصور، من أهداف الكفار الصد عن سبيل الله، ومنع الناس من الدخول في الإسلام، ومحاولة القضاء عليه وعلى دعوته، ولذلك كله كانت غزوة أحد، التي اجتمع فيها النصر والهزيمة، وظهر فيها الإيمان باستعلائه على المحن والآلام، وكانت درسا عمليا للصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم ـ ..

في شوال من السنة الثالثة من الهجرة، خرجت قريش بكل ما تقدر عليه من عدة وعتاد، ورجال ونساء، بلغوا ثلاثة آلاف مقاتل، لقتال المسلمين، فلما علم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك أعلن الجهاد، ووعد المؤمنين بنصر الله وثوابه، وما أعده الله للشهداء، واستشار أصحابه في الخروج للقتال خارج المدينة أو البقاء فيها، فأشار كثير من الصحابة بالخروج للقتال، فوافقهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، مع أن رأيه كان خلاف ذلك .

فخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المدينة في ألف من أصحابه، حتى إذا كانوا بين المدينة وأحد انسحب عبد الله بن أبي بن سلول ـ رأس النفاق ـ بثلث الجيش، حتى يحدث اضطرابا وهزة في الجيش الإسلامي، وقال هو ومن معه :" لو نعلم قتالا لاتبعناكم، وعلام نقتل أنفسنا ". فسار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعه سبعمائة من أصحابه، فعسكر بهم بجوار جبل أحد، وقسم الجيش علي ثلاث كتائب بقيادة مصعب بن عمير وأسيد بن حضير والحباب بن المنذر رضي الله عنهم أجمعين، وحثهم على الجهاد والصبر، والطاعة وعدم الخلاف، ثم جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ظهور المسلمين إلى جبل أحد، وجعل على الجبل خمسين راميا تحت إمرة عبد الله بن جبير ، وقال لهم : ( إن رأيتمونا قد انتصرنا فلا تبرحوا، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ).

وبدأت المعركة، واستعرت نيرانها، واستبسل المسلمون في القتال، وسجل التاريخ بطولات رائعة للصحابة رضوان الله عليهم، وانتصر المسلمون في البداية لما التزموا بأوامر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وانسحب المشركون منهزمين، وتبعهم المسلمون يقتلون ويغنمون .
فلما رأى الرماة ذلك نزل كثير منهم وتركوا أماكنهم، وخالفوا أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وظل أميرهم عبد الله بن جبير ـ رضي الله عنه ـ مكانه ومعه عدد قليل منهم، وانتهز خالد بن الوليد ـ ولازال يومئذ مشركا ـ فرصة خلو الجبل من الرماة ونزول أكثرهم، فالتف ورجع هو ومن معه من جنده، فقتلوا من بقي من الرماة وأميرهم، وأخذوا يهجمون على المسلمين من الخلف يقتلونهم، حتى وصلوا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشجوه في وجهه، وشاع في الناس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قتل، فازداد فزع المسلمين ..

 وفي هذه اللحظات العصيبة ثبت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومعه نفر من أصحابه، يدافعون عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأجسادهم وأرواحهم، في صور رائعة من الحب والتضحية، وعاد المسلمون إلى الثبات، ويئس المشركون من إنهاء المعركة بنصر حاسم فتوقفوا، رغم أن المسلمين وصلوا إلى حالة كبيرة من التعب والألم لما أصابهم .
وعلم الله ما بعباده من الهم والغم، والخوف والألم، فأنزل عليهم نعاسا ناموا فيه وقتا يسيرا، ثم أفاقوا وقد زالت عنهم آلامهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل: { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم }(آل عمران: من الآية154) ..يقول أبو طلحة ـ رضي الله عنه ـ واصفا تلك الحال : " كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد، حتى سقط سيفي من يدي مرارا، يسقط وآخذه، ويسقط فآخذه " ..

رجع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة وبات ليلة، ثم أمر كل من شارك في القتال أن يخرج معه لتتبع المشركين وقتالهم، فلما رأى المشركون ذلك دخلهم الخوف والرعب، فرجعوا إلى مكة، وانتهت المعركة بما فيها من آلام وجراح، ونصر وهزيمة، وقتل سبعون صحابيا وجرح العديد منهم، وأنزل الله في شأن هذه الغزوة نحوا من خمسين آية في سورة آل عمران، واصفا أحداثها، ومبينا أسباب النصر والهزيمة ..

لقد كانت غزوة أحد بما فيها من أحداث مؤلمة، تربية للأمة في كل زمان ومكان، لما فيها من دروس وعبر، تتوارثها الأجيال تلو الأجيال، وهي كثيرة، منها :

حب الصحابة الشديد لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقد ظهر ذلك بصورة عملية، حينما حاصر المشركون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، وخلال هذا الموقف العصيب سارع المسلمون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -- وأقاموا حوله سياجا بأجسادهم وسلاحهم، وبالغوا في الدفاع عنه، فقام أبو طلحة يسور نفسه بين يدي رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - ويرفع صدره ليقيه من سهام العدو، ويقول:" نحري دون نحرك يا رسول الله " ..
وأبو دجانة يحمي ظهر رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - والسهام تقع عليه ولا يتحرك .
وامتص مالك بن سنان الدم من وجنته ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أنقاه .

وعرضت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -- صخرة من الجبل فنهض إليها ليعلوها فلم يستطع، فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض عليه، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أوجب طلحة ) أي الجنة.
وامرأة من بني دينار أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأحد, فلما نعوهم لها قالت: " ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ، قالوا: خيرا يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل ـ أي صغيرة ـ " ..
وهكذا سما حب المسلمين الأوائل للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوق كل حب، إنه حب يعلو فوق حب الآباء والأبناء والأزواج والأنفس، كما قال تعالى: { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين }(التوبة:24) .
فالإيمان لا يكمل حتى يمتلئ قلب المسلم بحب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فهو القائل ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين )(البخاري). ويوم تمتلئ قلوب المسلمين بنحو هذا الحب سينتصرون على أعدائهم مهما كانت العقبات ..

ومن خلال غزوة أحد ظهر لنا أن المعاصي من أهم أسباب الهزيمة وتخلف النصر عن الأمة، فبسبب معصية واحدة، ذهب النصر عن المسلمين بعد أن انعقدت أسبابه، ولاحت بوادره، ظهر هذا الدرس في مخالفة الرماة لأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والذي قلب الموازين وأدى إلى الهزيمة، فالمسلمون انتصروا في بداية المعركة حينما امتثلوا أوامر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، بينما انهزموا حينما خالفوا أمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
ومن ثم ينبغي أن يعلم أنه وإن كان إعداد العدة والعدد مطلبا شرعيا، إلا أن النصر والهزيمة لا يتوقفان عليهما، فبالمعاصي تدور الدوائر، فقد فاضت أرواح في تلك الغزوة بسبب معصية، ومحيت حضارات كثيرة بسبب الذنوب والمعاصي ..

فالمعاصي سبب كل عناء، وطريق كل شقاء، ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا فشت في مجتمعات إلا أشقتها، وهي من الأسباب الرئيسية للهزيمة في الحروب، ومن ثم ينبغي الحذر منها والبعد عنها، قال الله تعالى: { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير }(آل عمران:165)، وقال تعالى: { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير }(الشورى:30) ..

ومن الدروس الهامة من معركة أحدخطورة إيثار الدنيا على الآخرة، وأن ذلك مما يفقد الأمة عون الله ونصره وتأييده، قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : " ما كنت أرى أحدا من أصحاب رسول الله - - صلى الله عليه وسلم - يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة }(آل عمران: من الآية152)" .
وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: لما هزم الله المشركين يوم أحد، قال الرماة : " أدركوا الناس ونبي الله، لا يسبقوكم إلى الغنائم، فتكون لهم دونكم "، وقال بعضهم : " لا نبرح حتى يأذن لنا النبي - صلى الله عليه وسلم – " ، فنزلت: { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة }.
وفي ذلك درس عظيم يبين خطورة حب الدنيا، وأن التعلق بها قد يتسلل إلى قلوب أهل الإيمان والصلاح، وربما خفي عليهم ذلك، فآثروها على ما عند الله، مما يوجب على المرء أن يتفقد نفسه ويحاسبها، وأن يزيل كل ما من شأنه أن يحول بينه وبين الاستجابة لأوامر الله ونواهيه .. ومن ثم فقد حذر الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أمته من الاغترار بالدنيا، والحرص الشديد عليها في مواطن كثيرة، وذلك لما لهذا الحرص من أثره السيئ على الأمة أفرادا ومجتمعات، كما ظهر ذلك في معركة أحد. ومن ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم: ( إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ..)(مسلم).

ومن الحكم الباهرة من هذه الغزوة إشاعة قتل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها، كي يتنبه المسلمون إلى الحقيقة التي ينبغي أن يوطنوا أنفسهم عليها، وهي قول الله تعالى لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: { إنك ميت وإنهم ميتون }(الزمر:30)، فلا يرتدوا على أعقابهم أو يضعفوا ويتراجعوا، إذا وجدوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد اختفى من بينهم، أو توفي أو قتل، ومن أجل ذلك قال الله تعالى: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين }(آل عمران:144) .
ولقد بان أثر هذه الحكمة يوم وفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالفعل، فكانت هذه الشائعة في يوم أحد وما نزل بسببها من القرآن، هي التي أيقظت المسلمين ونبهتهم، فودعوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقلوبهم الحزينة، ثم رجعوا إلى الأمانة التي تركها لهم فقاموا بها أقوياء أشداء..

ومن العبر الهامة من غزوة أحد : رحمة النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ ، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحيما بأصحابه، فلو كان فظا غليظا ما التفت حوله القلوب والمشاعر، فالناس في حاجة إلى رفق ورحمة، وقلب يشعر بهمومهم وآلامهم، ويشفق عليهم، وهكذا كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فلم يعنف الرماة الذين خالفوا أمره، ولم يخرجهم من الصف، بل قابل ضعفهم وخطأهم برفق وحكمة وعفو، قال الله تعالى : { فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين }(آل عمران:159) ..

بل إن رحمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ شملت في هذه المعركة الكافرين والذين آذوه وأرادوا قتله، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يمسح الدم عن وجهه بعد إصابته يوم أحد: ( كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله ، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )(أحمد) .. فكان من نتيجة ذلك أن أبا سفيان في أحد يقود المشركين، وشعاره: " اعل هبل" ، وفي فتح مكة يقول:"لا إله إلا الله" ، ووحشي يقتل حمزة في أحد، ثم يسلم ويقتل مدعي النبوة مسيلمة الكذاب بعد ذلك ..

إن غزوة أحد معركة اجتمع فيها النصر والهزيمة، ومع ما فيها من آلام وجراح، وشهداء وجرحى، إلا أنها كانت درسا عمليا للصحابة الكرام، وإن كان الثمن غاليا إلا أنه باق على مر العصور، يتعلم منه المسلمون أسباب النصر والهزيمة، وآثار التطلع إلى الدنيا ..
فما أحرى أمتنا الإسلامية، أفرادا ومجتمعات، أن تقف عند هذه الغزوة، وتستفيد من دروسها وعبرها، فما أشبه الليلة بالبارحة ..
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة