حلم النبي صلى الله عليه وسلم

7 2829

ما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء أحسن خلقا من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - ، وقد امتدحه ربه ـ عز وجل ـ على أخلاقه فقال : { وإنك لعلى خلق عظيم }(القلم : 4) ..

ومن عظيم أخلاقه وجميل خلاله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حلمه على من جهل عليه ، وعفوه عمن ظلمه ، وما من حليم إلا عرفت منه زلة ، وحفظت عنه هفوة ، إلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فما زاد مع كثرة الإيذاء إلا صبرا ، وعلى إسراف الجاهل إلا حلما ، إذ كان لا يغضب لنفسه أبدا .. فعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( ما خير رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه ، وما انتقم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى فينتقم لله بها )(أبو داود) ..

وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تستفزه الشدائد ، ولا تغضبه الإساءات ، فقد اتسع حلمه حتى جاوز العدل إلى الفضل مع من أساء إليه وجهل عليه ، فعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه - : ( لما كان يوم حنين آثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناسا في القسمة فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل ، وأعطى عيينة بن حصن مثل ذلك ، وأعطى ناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة ، فقال رجل : والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله ، قال : فقلت : والله لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فأتيته فأخبرته بما قال ، فتغير وجهه حتى كان كالصرف(شجر أحمر) ، ثم قال : فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله ، ثم قال : يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ، قال : فقلت : لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثا ..)(البخاري).
            ما ذا أقول إذا وصفت محمدا         عجز البيان وحلمه لا يفقد

ومواقف حلمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الإيذاء والغلظة وجفاء المعاملة وسوء الأدب كثيرة ، منها :
عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : ( كنت أمشى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه(جذبه) بردائه جبذة شديدة، نظرت إلى صفحة عنق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ، ثم قال : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك ثم أمر له بعطاء )(مسلم).

وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : ( .. أن رجلا أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتقاضاه فأغلظ ، فهم به أصحابه فقال : دعوه فإن لصاحب الحق مقالا ) ثم قال : ( أعطوه سنا مثل سنه ، قالوا يا رسول الله : إلا أمثل من سنه ، فقال : أعطوه ، فإن من خياركم أحسنكم قضاء )(البخاري) .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ( استأذن رهط من اليهود على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا : السام (الموت) عليكم ، فقالت عائشة : بل عليكم السام واللعنة ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله ، قالت : ألم تسمع ما قالوا ؟، قال : قلت وعليكم )(البخاري) .

ولما كسرت رباعيته وشج وجهه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم غزوة أحد، شق ذلك على أصحابه ، وقالوا : لو دعوت عليهم ، فقال : ( إني لم أبعث لعانا ، ولكني بعثت داعيا رحمة لهم ، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون }(مسلم).
قال القاضي عياض في كتابه الشفا : " .. قال القاضي أبو الفضل وفقه الله : انظر ما في هذا القول من جماع الفضل ودرجات الإحسان وحسن الخلق وكرم النفس وغاية الصبر والحلم ، إذ لم يقتصر ـ صلى الله عليه وسلم ـ على السكوت عنهم حتى عفا عنهم ثم أشفق عليهم ورحمهم ودعا وشفع لهم فقال : اغفر أو اهد ، ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله لقومي ، ثم اعتذر عنهم بجهلهم فقال : فإنهم لا يعلمون .." .

             حلمه مثل سنا الشمس        وهل لسنا الشمس يرى من جاحد

ولما خرج ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى قبيلة ثقيف لدعوتهم إلى الله، وطلبا للحماية مما ناله من أذى قومه، ماشيا على قدميه في مرارة ومعاناة ، واجتمع مع هذه المشقة والمعاناة سوء مقابلة وسفاهة وإيذاء ، ولما أمكنه الله منهم ظهر وعلا حلمه وعفوه عنهم ..
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( هل أتى : هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد ؟ قال : ( لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت ـ وأنا مهموم ـ على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ـ وهو المسمى بقرن المنازل ـ فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم . فناداني ملك الجبال، فسلم علي ثم قال : يا محمد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين(الجبلين) ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده لا يشرك به شيئا )(البخاري) .

           لا تضربن به في حلمه مثلا         فما له في البرايا يعرف المثل

وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحلم الناس ، يتجاوز عن المسيء ، فيشرق ويضيء قلبه بالإسلام .. كما حدث مع أبي سفيان يوم جيء به إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له ـ مع شدة إيذائه له ـ : ( ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ ، قال : بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك )(الطبراني) ..

وجاءه زيد بن سعنة قبل إسلامه يتقاضاه دينا عليه ، فجبذ ثوبه عن منكبه ، وأخذ بمجامع ثيابه ، وأغلظ له ، ثم قال : إنكم يا بنى عبد المطلب مطل ، فانتهره عمر وشدد له في القول ، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبتسم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وأنا وهو كنا إلى غير هذا منك أحوج يا عمر: تأمرني بحسن القضاء ، وتأمره بحسن التقاضي ، ثم قال لقد بقى من أجله ثلاث ، وأمر عمر يقضيه ماله ويزيده عشرين صاعا لما روعه فكان سبب إسلامه ) ، وذلك أنه كان يقول : ما بقى من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد إلا اثنتين لم أخبرهما : يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل إلا حلما، فأخبرته بهذا فوجدته كما وصف .."

            رحابة الصدر فيه غير خافية       من أجلها عظمت فيهم مكانته

لقد تضافرت الأخبار على اتصافه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحلم ، وحسبنا ما بلغ متواترا من صبره وحلمه على الشدائد الصعبة والإيذاء من قريش ، إلى أن أظفره الله عليهم وحكمه فيهم ، وهم لا يشكون في استئصالهم والانتقام منهم ، فما زاد على أن حلم وعفا عنهم ، وقال : ( ما تقولون وما تظنون؟ ، قالوا : نقول ابن أخ وابن عم حليم رحيم ، فقال : أقول كما قال يوسف لإخوته : { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين }(يوسف: من الآية92) )(البيهقي) .

ولأهمية الحلم في حياة المسلم أوصى به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرا ، وجعل جزاءه عظيما ، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( أوصني قال : لا تغضب ، فردد مرارا قال : لا تغضب )(البخاري).
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ليس الشديد بالصرعة ، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )(البخاري) .

وعن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رجل لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( دلني على عمل يدخلني الجنة ، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا تغضب ولك الجنة )(الطبراني) .
وعن معاذ ـ رضي الله عنه ـ قال : ( من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور العين ما شاء )(أبو داود) ..

فما أحوجنا إلى الاقتداء به ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حلمه وعفوه ، بل في أخلاقه كلها ، وفي ذلك سعادة الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }(الأحزاب: من الآية21) ..
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة