قبس من أخلاق النبي ـ الشجاعة ـ

1 1899

كان رسول الله ـ صلى عليه وسلم ـ أحسن الناس سمتا وعشرة، وأكملهم أدبا وخلقا، وقد وصفه الله سبحانه بذلك فقال : { وإنك لعلى خلق عظيم }(القلم:4) ، فما من خصلة من خصال الخير إلا ولرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوفر الحظ والنصيب من التخلق بها ، شهد له بذلك القاصي والداني ، والعدو والصديق ، ومن ثم كانت مكارم الأخلاق سمة بارزة في قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفعله وسيرته .

وقد سئلت أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن أخلاق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: ( كان خلقه القرآن )(أحمد) ، وتريد بذلك أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان في مسلكه الخلقي محققا لأدب القرآن في كل ما أحبه الله من الصفات الطيبة والأخلاق العظيمة ..

ومن ذلك أن الله تعالى أمر بالوفاء بالعهد فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوفى الناس بعهده ، وأمر بالتواضع فكان أكرم الخلق تواضعا، وأمر بالعبادة فكان أكثر العباد إقبالا على العبادة ، وحث على الشجاعة فكان أشجع البشر ، وحبب للمؤمنين الصفح والعفو فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعفى الخلق وأصفحهم ، وحض على الرحمة والبر فلا يعرف من يدانيه رحمة وبرا..
وهكذا كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يترجم بفعله أكرم الأخلاق التي رغب الله فيها عباده الصالحين ، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )(أحمد) .
فتثبيت الفضائل الخلقية وغرسها في البشرية كان بمثابة الهدف الأعلى لرسالته ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ .. 

الشجاعة المحمدية :

الشجاعة خلق فاضل ووصف كريم ، لا سيما إذا كانت في العقل والقلب ، وفي الناحيتين المعنوية والحسية على السواء ، وصاحبها من أهل الإيمان والعلم ، وقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثلا أعلى في الشجاعة كلها .
وقد تجلت شجاعته المعنوية في وقوفه بدعوته الربانية في وجه الكفر وأهله ، إذ كان العالم حين بعث ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد انصرف عن طريق الله ، وغرق في بحر من المعاصي والآثام والشرك ، فثبت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على دعوته يحتمل في سبيلها أشد ألوان الأذى والبلاء .. وقد حاولت قريش معه مختلف الوسائل من الاضطهاد والإيذاء ، والإغراء بالمال والنساء ، والزعامة والملك ، فلم يزدد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا ثباتا على دينه ، وتصميما على إبلاغ دعوته ، حتى كتب الله له الفلاح والنصر ، وأظهر دينه على الدين كله ..

أما شجاعته الحسية فعجب من العجب ، يشهد له بها أهل البطولة ، إذ كان من الشجاعة والقوة بالمكان الذي لا يجهل ، حضر المواقف والمعارك الصعبة ، وفر عنه الأبطال والشجعان ، وهو ثابت لا يتزحزح ، ومقبل لا يدبر، وما شجاع إلا وقد أحصيت له فرة إلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال علي ـ رضي الله عنه ـ : ( كنا إذا حمي البأس ، واحمرت الحدق ، اتقينا برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه )(أحمد) .

وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : ( كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحسن الناس وأشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ليلة ، فخرجوا نحو الصوت ، فاستقبلهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد استبرأ الخبر وهو على فرس لأبى طلحة عري (مجرد من السرج) ، وفي عنقه السيف ، وهو يقول : لم تراعوا ، لم تراعوا .. )(البخاري).. لم تراعوا، لم تراعوا: أي لا تخافوا ولا تفزعوا .. وفي ذلك بيان لشجاعته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، حيث خرج قبل الناس وحده لمعرفة الأمر ليطمئنهم ..

والأمثلة التطبيقية العملية من حياة وسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي تدلل على شجاعته وثباته كثيرة فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتقدم أصحابه في الجهاد في سبيل الله ، وقد شج وجهه ، وكسرت رباعيته - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد .

وفي يوم حنين ثبت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وجه الآلاف من هوازن ، بعد أن تفرق عنه الناس خوفا واضطرابا من الكمين المفاجئ الذي تعرضوا له .
ويصف البراء بن عازب ـ رضي الله عنه ـ الموقف فيقول لرجل سأله : أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة ؟ ، فقال : ( أشهد على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ما ولى ، ولكنه انطلق أخفاء من الناس وحسر(من لا سلاح معهم) إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة ، فرموهم برشق من نبل كأنها رجل(قطيع) من جراد فانكشفوا ، فأقبل القوم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول : أنا النبي لا كذب . أنا ابن عبد المطلب . اللهم نزل نصرك .. قال البراء : كنا والله إذا احمر البأس(الحرب) نتقى به، وإن الشجاع منا للذي يحاذى به . يعنى النبي - صلى الله عليه وسلم - )(البخاري).

قال ابن كثير في تفسيره بعد سياق هذا الحديث : " .. وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة ، أنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى ، وقد انكشف عنه جيشه ، وهو مع هذا على بغلة ، وليست سريعة الجري ، ولا تصلح لفر ولا كر ولا هرب ، وهو مع هذا يركضها على وجوههم وينوه باسمه ، ليعرف من لم يعرفه - صلى الله عليه وسلم - دائما إلى يوم الدين ، وما هذا كله إلا ثقة بالله ، وتوكلا عليه ، وعلما منه بأنه سينصره ، ويتم ما أرسله له ، ويظهر دينه على سائر الأديان " ..

وعن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال : ( غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزاة قبل نجد، فأدركنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القائلة في واد كثير العضاه (شجر فيه شوك) ، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها ، وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر .. قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن رجلا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي ، والسيف صلتا(مسلولا) في يده ، فقال: من يمنعك مني؟ ، قلت : الله ، فشام السيف(رده في غمده)، فها هو ذا جالس ، ثم لم يعرض له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )(مسلم) .
قال ابن حجر في فتح الباري : " وفي الحديث فرط شجاعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقوة يقينه ، وصبره على الأذى ، وحلمه عن الجهال " .

 لقد كانت مواقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخلاقه مضرب المثل والقدوة ، فهو شجاع في موطن الشجاعة ، قوي في موطن القوة ، عفو في موطن العفو ، رحيم رفيق في موطن الرحمة والرفق ، فصلوات الله وسلامه عليه ..
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة