بَلْ عَبْداً رسولا

1 2211

من دلائل نبوة الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ زهده في الدنيا وإعراضه عنها طلبا لثواب الله في الآخرة ، مع أن الدنيا كانت بين يديه ، وأنه أكرم الخلق على الله ، ولو شاء لأجرى الله له الجبال ذهبا وفضة ، ولو كان دعيا يفتري الكذب ما فرط في دنياه ، فإعراضه عن الدنيا وزهده فيها من دلائل نبوته ورسالته ..

كان زهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ زهد من علم فناء الدنيا وسرعة زوالها ، وبقاء الآخرة وما أعده الله لأوليائه فيها من نعيم مقيم وأجر عظيم ، فرفض ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأخذ من الدنيا إلا بقدر ما يسد الرمق ، فآثر حياة الزهد ، وكثيرا ما كان يدعو ربه قائلا : ( اللهم أحيني مسكينا ، وأمتني مسكينا ، واحشرني في زمرة المساكين )(الترمذي) .

وخيره ربه بين أن يكون ملكا رسولا أو عبدا رسولا ، فاختار أن يكون عبدا رسولا ، يشبع يوما ويجوع يوما ، حتى لقي الله ـ عز وجل ـ ، زهدا في الدنيا وترفعا على متاعها ..
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : ( جلس جبريل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنظر إلى السماء ، فإذا ملك ينزل ، فقال له جبريل : هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة ، فلما نزل قال : يا محمد أرسلني إليك ربك : أملكا أجعلك أم عبدا رسولا ؟ ، قال له جبريل : تواضع لربك يا محمد ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بل عبدا رسولا )(أحمد) .

وإذا تأملنا بيت وحياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأينا عجبا ..

فبيته من طين ، متقارب الأطراف ، داني السقف ، ينام فيه على الحصير حتى أثر في جنبه ، وربط الحجر على بطنه من الجوع ، وربما عرف أصحابه أثر الجوع في وجهه ، وهو رسول الله وصفوته من خلقه ..
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( ما شبع آل محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ )(البخاري) .
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : " إنما كان فراش رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي ينام عليه أدما حشوه ليف " ، و أخرجت ـ رضي الله عنها ـ كساء ملبدا وإزارا غليظا فقالت : " قبض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذين ".

ويقول عمر ـ رضي الله عنه ـ : ( .. فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهو مضطجع على حصير فجلست ، فأدنى عليه إزاره وليس عليه غيره ، وإذا الحصير قد أثر في جنبه ، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع ومثلها قرظا في ناحية الغرفة، وإذا أفيق معلق .. قال : فابتدرت عيناي ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ما يبكيك يا ابن الخطاب ؟! ، قلت : يا نبي الله وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك ، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى ، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار وأنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفوته وهذه خزانتك ؟! ، فقال : يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا ، قلت بلى .. )(مسلم) .

ورآه عمر ـ رضي الله عنه ـ يتلوى من الجوع ، وما يجد رديء التمر يسد به جوعته ، ثم رأى ـ رضي الله عنه ـ ما أصاب الناس من الدنيا فقال : ( لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يظل اليوم يلتوي ما يجد دقلا (رديء التمر) يملأ به بطنه )(مسلم) .
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : ( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون عشاء ، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير )(الترمذي) .

وتحكي أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ لابن أختها عروة حال بيوت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتقول : ( .. والله يا ابن أختي إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقد في أبيات رسول الله - صلى الله عليه وسلم – نار ، قال : قلت يا خالة فما كان يعيشكم ؟! ، قالت : الأسودان التمر والماء ، إلا أنه قد كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيران من الأنصار وكانت لهم منائح (الشاه أو الناقة) فكانوا يرسلون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من ألبانها فيسقيناه )(مسلم) .

وتدخل امرأة وابنتاها بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يشكون الجوع فماذا وجدوا في بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟! ..
عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ( دخلت امرأة معها ابنتان لها تسأل ، فلم تجد عندي شيئا غير تمرة ، فأعطيتها إياها فقسمتها بين ابنتيها ولم تأكل منها ، ثم قامت فخرجت ، فدخل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ علينا فأخبرته ، فقال : من ابتلي من هذه البنات بشيء كن له سترا من النار )(البخاري) .

ويطرق ضيف باب بيته ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا يجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يضيفه به ، فيرسل إلى بيوته يسأل نساءه ، فلا يجد عندهن سوى الماء ، فلم يجد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدا من الطلب من أصحابه أن يضيفوه .. ومع ذلك كله فقد كان يدعو الله قائلا : ( اللهم ارزق آل محمد قوتا )(البخاري)
قال ابن حجر في فتح الباري : " .. شرحه ابن بطال فقال : فيه دليل على فضل الكفاف وأخذ البلغة من الدنيا ، والزهد فيما فوق ذلك رغبة في توفر نعيم الآخرة ، وإيثارا لما يبقى على ما يفنى .. فينبغي أن تقتدي به أمته في ذلك .. وقال القرطبي : معنى الحديث أنه طلب الكفاف ، فإن القوت ما يقوت البدن ويكف عن الحاجة ، وفي هذه الحالة سلامة من آفات الغنى والفقر جميعا .." ..

وتشكو إليه ابنته فاطمة ـ رضي الله عنها ـ ما تلقى في يدها من الرحى ، وتطلب من أبيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعطيها خادما يخفف عنها ما هي فيه من تعب ، فيرد عليها ـ صلى الله عليه وسلم ـ ناصحا لها ولزوجها علي ـ رضي الله عنه ـ قائلا : ( .. ألا أدلكما على خير مما سألتما ؟ ، إذا أخذتما مضاجعكما ـ أو أويتما إلى فراشكما ـ فسبحا ثلاثا وثلاثين ، واحمدا ثلاثا وثلاثين ، وكبرا أربعا وثلاثين فهو خير لكما من خادم .. )(البخاري) .

ومن زهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يقسم الأموال على الناس ثم لا يحوز منها درهما واحدا ، ويوزع الإبل والبقر والغنم على أصحابه وأتباعه والمؤلفة قلوبهم ثم لا يأخذ لنفسه شيئا ، بل يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( .. فلو كان لي عدد هذه العضاه ( شجر له شوك ) نعما (الإبل والشاة) لقسمته بينكم ، ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذابا ولا جبانا .. )(البخاري) .

ويقول أبو ذر ـ رضي الله عنه ـ : كنت أمشي مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حرة(أرض ذات حجارة سود) المدينة ، فاستقبلنا أحد ، فقال : ( يا أبا ذر : قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا ، تمضي علي ثالثة وعندي منه دينار ، إلا شيئا أرصده لدين ، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن خلفه .. )(البخاري) ..

             وراودته الجبال الشم من ذهب       عن نفسه فأراها أيما شمم

ولما غادر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدنيا ما ترك لأهله شيئا .. فعن عمرو بن الحارث ـ رضي الله عنه ـ قال : ( ما ترك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند موته درهما ولا دينارا ، ولا عبدا ولا أمة ، ولا شيئا ، إلا بغلته البيضاء وسلاحه ، وأرضا جعلها صدقة )(البخاري) ، وهو القائل ـ صلى الله عليه وسلم : ( .. لا نورث ، ما تركناه صدقة )(البخاري).
وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ( توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير )(البخاري) .

لقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أزهد الناس في الدنيا ، والأسوة العظمى في الإقبال على الآخرة ، وكان زهده اختياريا ، فلو شاء لجعل الله له الجبال ذهبا ، وقد فتح الله تعالى له البلاد ، وجعل له خمس الغنائم ، ومع ذلك كان يتصدق بكل ما يأتيه من الأموال ، ويبقى ينام على الأرض ، ولا يجد شيئا يأكله ، مؤثرا على نفسه فقراء الأمة ومصالح الإسلام .. وربى بزهده كثيرا من الرجال ، فتخلقوا بمثل أخلاقه فصلوات الله عليه وعلى آله وأصحابه .

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة