- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:من تبوك إلى الوفاة
في رجب من السنة التاسعة للهجرة كانت غزوة تبوك ، آخر غزوة غزاها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد أرست هذه الغزوة دعائم الدولة الإسلامية ، ووطدت سلطان الإسلام في شمال شبه الجزيرة العربية ، ومهدت لفتوح الشام ، واستطاع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من خلالها إسقاط هيبة الروم .. إذ بعد استقرار الوضع الداخلي في مكة ، توجه النبي - صلى الله عليه وسلم ـ إلى الخارج لإكمال مهمة الدعوة والبلاغ ، خصوصا وأن الأنباء قد وصلت إليه أن الروم بدأت بحشد قواتها لغزو المسلمين ، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم ـ أن يبادرهم بالخروج إليهم ، في غزوة عرفت في السيرة النبوية باسم " غزوة تبوك " ..
وجاءت تسمية هذه الغزوة من " عين تبوك " التي مر بها المسلمون وهم في طريقهم إلى أرض الروم ، وسميت أيضا بغزوة العسرة لما اجتمع فيها من مظاهر الشدة والعسر ، حيث حرارة الجو ، وندرة الماء ، وبعد المكان ، وحالة الفقر والضيق التي كان يعيشها المسلمون .. وقد أشار القرآن الكريم إلى تلك الحال في قوله تعالى : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة }(التوبة: من الآية117) ..
وقد شهدت هذه الغزوة العديد من المواقف والأحداث التي وقعت في أثناء ذهاب ورجوع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منها .. وكان من أهم هذه الأحداث في أثناء رجوعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هي محاولة اغتياله من قبل جماعة من المنافقين المشاركين في الجيش الإسلامي .
ويصور حذيفة ـ رضي الله عنه ـ هذه الواقعة ـ كما ذكرها ابن كثير في البداية والبيهقي في الدلائل والبزار في مسنده ـ فيقول : ( كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقود به وعمار يسوق الناقة ، أو أنا أسوق وعمار يقود به ، حتى إذا كنا بالعقبة إذا باثني عشر راكبا قد اعترضوه فيها ، فأنبهت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فصرخ بهم فولوا مدبرين ، فقال لنا رسول الله : هل عرفتم القوم ؟، قلنا : لا يا رسول الله قد كانوا متلثمين ، ولكنا قد عرفنا الركاب ، قال : هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة ، وهل تدرون ما أرادوا ؟ ، قلنا : لا ، قال : أرادوا أن يزحموا رسول الله في العقبة فيلقوه منها . قلنا : يا رسول الله أولا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم ؟ ، قال : لا ، أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمدا قاتل بقومه ، حتى إذا أظهره (نصره) الله بهم أقبل عليهم يقتلهم. ثم قال : اللهم ارمهم بالدبيلة ، قلنا : يا رسول الله وما الدبيلة ؟ ، قال : هي شهاب من نار تقع على نياط (عرق) قلب أحدهم فيهلك ) .
الدبيلة : خراج يخرج في الظهر، فيظهر على القلب فيهلك صاحبه ..
وبالرغم من وضوح هذه الجريمة الغادرة ، تجلى موقف النبي - صلى الله عليه وسلم ـ مع هؤلاء النفر حفاظا على سمعة المسلمين ، ومخافة أن يقول الناس إن محمدا يقتل أصحابه .
ديار ثمود :
مر المسلمون في طريق عودتهم من تبوك بالديار التي كانت ثمود تسكنها ، وهي أطلال هامدة ، وآثار بقيت تذكر بغضب الله على من كذبوا رسله ، وتعجلوا عقابه ، فاستقى الناس من بئرها ، واعتجنوا به ، فنهاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الشرب أو الوضوء منه ، وأمرهم أن يعلفوا الإبل العجين ، وأن يستقوا من البئر التي كانت تشرب منه ناقة صالح ـ عليه السلام ـ ..
فعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال : ( إن الناس نزلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرض ثمود ، الحجر ، واستقوا من بئرها ، واعتجنوا به ، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهريقوا ما استقوا من بئرها ، وأن يعلفوا الإبل العجين ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة )(البخاري) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين .. ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي )(البخاري) ..
وهذا منهج نبوي كريم في توجيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ صحابته ومن يأتي من بعدهم إلى الاعتبار بديار ثمود ومن شابههم ، فلا ينبغي للمسلم أن يدخل ديار الأمم السابقة ممن أهلكهم الله بكفرهم ، أو أن يمر على شيء من آثارهم ، إلا وهو معتبر بحالهم ومآلهم ، إذ هي منازل شهدت مظهرا من غضب الله وعذابه ، فمن الخطأ الكبير أن يمر الإنسان عليها ساهيا لاهيا ، لا يهتم بغير المظهر أو البناء والنقوش ، وعليه أن يسأل الله العافية له وللمسلمين ، وأن يسرع في الرحيل عنها ، حيث أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسجى (تغطى) بثوبه لما مر بهذه الديار الملعونة ، واستحث خطا راحلته ، وقال لأصحابه : ( لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلا وأنتم باكون ، خوفا أن يصيبكم ما أصابهم )(البخاري) ..
يا ليتني كنت صاحب الحفرة :
صاحب هذه الأمنية هو عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ، وصاحب الحفرة هو عبد الله ذو البجادين ـ رضي الله عنه ـ والواقعة في غزوة تبوك ..
أما قصة تلك الواقعة فذكرها ابن القيم في زاد المعاد ، وابن هشام في سيرته عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : ( قمت من جوف الليل ، وأنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك ، قال : فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر ، قال : فاتبعتها أنظر إليها ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر وعمر ، وإذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات ، وإذا هم قد حفروا له ، ورسول - صلى الله عليه وسلم - في حضرته ،وأبو بكر وعمر يدليانه إليه ، وهو يقول : أدليا إلى أخاكما ، فدلياه إليه ، فلما هيأه بشقه ، قال : اللهم إني أمسيت راضيا عنه ، فارض عنه .. قال : قال عبد الله بن مسعود : يا ليتني كنت صاحب الحفرة ) ..
قال ابن هشام : " وإنما سمى ذو البجادين ، لأنه كان ينازع إلى الإسلام فيمنعه قومه من ذلك ويضيقون عليه ، حتى تركوه في بجاد (كساء غليظ) ، ليس عليه غيره ، فهرب منهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما كان قريبا منه شق بجاده باثنين ، فأتزر بواحد واشتمل بالآخر ، ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل له : ذو البجادين لذلك " ..
وفي فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقوله مع ذي البجادين ـ رضي الله عنه ـ وهو يقوم بدفنه ، تكريم لأصحابه وجنوده والدعاء لهم ، لأنهم بذلوا أنفسهم وباعوها لله ، تاركين وراءهم أعز ما يملكون ، فكانت تلك الرعاية من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مظهرا من مظاهر تكريمه لعبد الله ذي البجادين ، مما يدفع غيره إلى الاستبسال والإقدام في ميادين الجهاد ، وبذل النفس في سبيل الله ، ومن ثم قال عبد الله بن مسعود : " ياليتني كنت صاحب الحفرة ".
وكم من مسلم حينما علم ذلك قال قولة عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : " ياليتني كنت صاحب الحفرة ".
ولا شك كذلك أن في قيام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدفن عبد الله بيده صورة فريدة من التواضع ، حيث يوسد الحاكم فردا من رعيته بيده ، ثم يلتمس له المرضاة من رب العالمين ..
كما ظهر في هذا الحدث أن تمني مثل ما عند الغير من الخير مشروع وهي الغبطة ، على خلاف الحسد الذي هو : تمنى زوال النعمة عن الغير، ومن ثم حين سمع عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول بحق ذي البجادين : ( اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه ) ، قال : " يا ليتني كنت صاحب الحفرة "، فقد عرف الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ ميادين التمني والتنافس الحقيقية ..
كذاك الفخر يا همم الرجال تعالى فانظري كيف التعالي