- اسم الكاتب:أحمد بن عبدالرحمن الصويان
- التصنيف:تاريخ و حضارة
قبل عقود كانت كتابات المستشرق الألماني (هوروفيتش) والمستشرق المجري (بيرانت هيللر) وغيرهما من المستشرقين المعتنين بالدراسات القرآنية، وكتابات غولد تسهير وجوزيف شاخت وغيرهما من المستشرقين المعتنين بالدراسات الحديثية، كانت كتابات هؤلاء جميعا تحظى باهتمام بعض أهل الأهواء من بني جلدتنا، ثم تراهم يجترون شبهات القوم للتشكيك في القرآن العظيم والسنة النبوية، وفي تاريخ الأمة وتراثها العلمي. وكان بعضهم يعرض ذلك الغثاء بحجة البحث العلمي، كما فعل محمد أحمد خلف الله في رسالته عن الفن القصصي في القرآن، وكما فعل أبو رية في تدوين السنة النبوية.
وكان بعض المنتسبين للأحزاب الشيوعية والتيارات الإلحادية يتلقفون تلك الشبهات، ويثيرونها في وسائل الإعلام وفي منتدياتهم الثقافية والفكرية لإسقاط حجية الشريعة ومحاربة دين الإسلام.
وفي تلك المرحلة تصدى علماء الإسلام لتلك الحملات الاستشراقية، وكشفوا زيف وتحريف تلك المشاريع التي تدعي الحياد العلمي في البحث، وتزعم استخدام الأدوات المعرفية المعاصرة في النقد والتحليل.
ومع مطلع هذا العقد بدأت حملة جديدة لإحياء تلك الشبهات الاستشراقية بأسلوب هجومي فج مستفز أحيانا كما فعل نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون وغيرهما، وبأسلوب ماكر مخادع أحيانا كما يفعل الدكتور محمد عابد الجابري، الذي يتدثر أيضا بالبحث العلمي، ويزعم نقد التراث الإسلامي باستخدام الأدوات المعرفية من التراث نفسه.
وأكثر هؤلاء لا يزيد دورهم عن اجترار تلك الشبهات وإعادة استنساخها وصياغتها... والمحصلة النهائية الناتجة واحدة؛ فإذا كان محمد خلف الله وأركون وعزيز العظمة يزعمون أن القصص القرآني أساطير لا حقيقة لها، فإن الجابري يزعم أن سياق القصص في القرآن الكريم لم يقصد به التدوين التاريخي؛ وإنما هي أمثال مضروبة يراد منها العظة والعبرة، ويزعم أنه (كما يضرب القرآن المثل برجلين أو بجنتين من غير تحديد، وكما يجري حوارا بين أهل الجنة وأصحاب النار والقيامة لم تقم بعد، فكذلك الشأن في قصص الأنبياء التي يذكرها؛ إنها للذكر (أي: للموعظة والعبرة). وهكذا فكما أننا لا نسأل عن صحة القصة التي وراء الأمثال التي تضرب لموقف أو حال؛ لأن المقصود بالمثل ليـس أشخاصه بل مغـزاه، فكذلك القصص القـرآني في نظـرنا. والصـدق في هـذا المجال - سواء تعلق الأمر بالمثل أو بالقصـة - لا يلتمس في مطابقة أو عدم مطابقة شخصيات القصة والمثل للواقع التاريخي، بل الصدق فيه مرجعه مخيال المستمع ومعهوده).
وإذا كان المستشرقون يطعنون صراحة في جمع القرآن وتحريه، فإن الجابري يثني على الجهد الكبير الذي بذل في جمع القرآن، ولكنه يرى (أنه ليس ثمة أدلة قاطعة على حدوث زيادة أو نقصان في القرآن كما هو في المصحف بين أيدي الناس منذ جمعه زمن عثمان. أما قبل ذلك فالقرآن كان مفرقا في صحف وفي صدور الصحابة، ومن المؤكد أن ما كان يتوفر عليه هذا الصحابي أو ذلك من القرآن (مكتوبا أو محفوظا) كان يختلف عما كان عند غيره، كما وترتيبا). ثم زعم أنه (من الجائز أن تحدث أخطاء حين جمعه زمن عثمان أو قبل ذلك)؛ بحجة أن (الذين تولوا مهمة جمعه لم يكونوا معصومين)!
هذه الموجة الجديدة من التضليل والتحريف والخداع، دفعت كثيرا من أهل الأهواء وأدعياء الفكر والثقافة إلى التمرد على الثوابت والتطاول على الحرمات الشرعية، والنقد المتطرف والمتشنج لكل ما هو تراثي. وقد زاد من حدة هذه الظاهرة ذلك الفضاء الواسع الذي فتحته شبكة الإنترنت؛ حيث أصبحت بعض المنتديات الحوارية والمواقع الفكرية تقذف بشباكها ليتساقط فيها بعض البسطاء المبهورين ببريق الحرية، وبعض أرباع المثقفين الذين غرهم تعالم بعض المتفيقهين؛ فتحولت العقلية الانهزامية الهشة بعد الاغترار بتلك الشبهات إلى عقلية متشنجة تدعي الشجاعة والجرأة في نقد ثوابت الأمة!
والجدير بالتأمل أن الدكتور مصطفى السباعي - رحمه الله تعالى - شهد أن أبا رية كان أفحش وأسوأ أدبا من كل من تكلم في حق أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ من المعتزلة والرافضة والمستشرقين قديما وحديثا، وصدق - رحمه الله تعالى - في ما ذهب إليه؛ فكثير من هؤلاء المتطاولين بلغوا من سوء الأدب والفجور الفكري ما تجاوزوا فيه أسيادهم المستشرقين، خاصة في بعض مواقع الإنترنت التي يتستر فيها بعضهم بأسماء رمزية.
وإذا كان أبرز المستشرقين (قد جعلوا من أنفسهم فريسة التحزب غير العلمي في كتاباتهم عن الإسلام) كما وصفهم الكاتب النمساوي المسلم محمد أسد، فإن بعض مقلديهم من المستشرقين الجدد أضافوا إلى غياب تلك الموضوعية جهلا ذريعا في تراث الأمة وأصولها العلمية، وحقدا متجذرا على علماء الأمة وتاريخها الحضاري.
إذا نحن أمام ظاهرة يجب الوقوف عندها؛ فعجلة التغيير الاجتماعي والفكري تتسارع بشكل مذهل في مجتمعاتنا، وخطابنا العلمي والدعوي يتغير ويزداد نضجا، ولكن ذلك يجري ببطئ واضح يقصر عن متابعة الواقع في بعض الأحيان.
إننا أمام نازلة تتطلب أفقا جديدا من العلماء والدعاة، ومن المعالم المهمة التي ينبغي مراعاتها:
أولا: تربية الأمة على تعظيم النصوص الشرعية، والاستسلام التام لها، وعدم التقدم بين يديها برأي أو اعتراض، وأحسب أن كثيرا من الجنوح والاضطراب الفكري الذي يدفع الشباب إلى التبعية والاستلاب سببه الرئيس هجران النصوص والإعراض عنها.
ثانيا: تحصين الفتيان والفتيات بالعلم النافع الذي يبني اليقين، ويزيل غشاوة الشبهات ونزوات الأهواء. ويتطلب ذلك عناية بالخطاب الشرعي الذي يعلي من شأن العلم والمعرفة، ويرتكز على أساس الحجة والبرهان.
ثالثا: استخدام الأدوات المعرفية والتقنية الحديثة لمخاطبة الشباب باللغة التي يفهمونها ويتفاعلون معها. ويتطلب ذلك قدرة فائقة على تفهم مشكلاتهم واستيعاب التحديات التي تواجههم، بشكل يتجاوز الحواجز النفسية والزمنية التي قد تفصل العلماء والدعاة عنهم.
رابعا: هذه النازلة تتطلب فريقا من المتخصصين الأكفاء الذين يتقنون الأدوات الفكرية والمنهجية في الحوار، ويتصدون للاحتساب العلمي على أولئك المستشرقين بعلم وعدل.
وقد يكون تقصيرنا في إعداد هذا الفريق من أسباب انتشار ذلك الباطل وكثرة من يتأثر بهم من الشباب.
خامسا: ترسـيخ قيـم التـدين والعبـادة والخوف من الله تعالى: إن الحقيقة التي نلمس بعض مظاهرها أن ضعف التدين وقلة الخوف من الله - عز وجل - تجعل عقل الإنسان بيئة خصبة للقلق الفكري والانحراف عن جادة الصـراط المسـتقيم، وتجعـل قلمـه ولسـانه يخــوض في ما لا يحسن، ويتطاول بحثا عن التصدر والأضواء، وصدق المولى - جل وعلا -: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون}.