منهج ابن عبد السلام في تفسيره

0 1458

تعددت كتب تفاسير القرآن الكريم، وتعددت مناهج أصحابها في تفسير كتاب الله الكريم، فمنهم المتوسع، ومنهم المختصر، ومنهم من غلب عليه التفسير بالمأثور، ومنهم من غلب عليه التفسير بالمعقول، ومنهم من توسع في الجوانب اللغوية، ومنهم من توسع في الجوانب الفقهية، ومنهم من ارتأى مسلكا غير كل ما تقدم، ولكل وجهة هو موليها، بيد أن ما يجمع عليه الجميع، هو خدمة كتاب الله تفسيرا وشرحا وتوضيحا.

ومن التفاسير التي بقيت مهملة في زاويا النسيان فترة طويلة، ولم تر النور إلا منذ سنوات معدودة، تفسير ابن عبد السلام، الفقيه الشافعي صاحب كتاب "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، فقد قام على تحقيق هذا التفسير القيم الأستاذ عبد الله الوهيبي.

وقد ذكر بعض الباحثين الذين أرخوا للتراث العلمي الذي تركه ابن عبد السلام أنه ألف مختصرا لتفسير الماوردي المسمى بـ "النكت والعيون"، اقتصر فيه على ذكر معاني المفردات القرآنية، مع الإشارة إلى الصور البلاغية، والبيانية، والفوائد الفقهية، والنحوية. ثم ذكر الباحث نفسه أن لابن عبد السلام كتابا آخر تحت عنوان "تفسير القرآن لابن عبد السلام"، أو "تفسير ابن عبد السلام"، وصفه بأنه تفسير كامل للقرآن الكريم من تأليفه بعبارة مختصرة، اهتم فيه ببيان معاني الكلمات، وذكر الوجوه اللغوية، وبعض الوجوه النحوية، والنكات البلاغية. 

والذي يظهر أن هذا التفسير هو نفسه مختصر تفسير الماوردي، وأن ابن عبد السلام ألف كتابا واحدا في التفسير، اختصر به تفسير الماوردي. ونحن فيما يلي نذكر منهجه في هذا التفسير.

معالم المنهج التفسيري عند ابن عبد السلام

من خلال الرجوع إلى تفسير ابن عبد السلام، وتتبع منهجه في تفسيره، تبين لنا جملة من السمات المنهجية التي نهجها ابن عبد السلام في تفسيره، وهي على الجملة وفق التالي: 

* رجوعه إلى مصادر أصيلة وقديمة في التفسير: اعتمد ابن عبد السلام في تفسيره - شأن المفسرين عموما - على من سبقه من المفسرين، أمثال حبر القرآن ابن عباس رضي الله عنهما، والمفسرين من التابعين، كمجاهد، والحسن، وغيرهما، ومن بعدهم من المفسرين، كالإمام الطبري. ولا غرو في ذلك، فلا مناص للمتأخر من أن يعتمد على من تقدمه، ولا غنى للآخر من أن يعود إلى الأول، فالمتقدم هو الأصل، وإليه المرجع . وإليك البيان. 

عند بيانه للمراد من لفظ (الهجر) في قوله تعالى: {واهجروهن في المضاجع} (النساء:34)، يذكر ابن عبد السلام عدة أقوال في المراد من ذلك، ويذكر من بين تلك الأقوال أن المراد أن "يربطها بالهجار -وهو حبل يربط به البعير-"، ثم يذكر أن هذا القول قاله الطبري

وعند تفسيره للمراد من قوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} (البقرة:185)، قال: "وكره مجاهد أن يقال: (رمضان)، قائلا: لعله من أسماء الله تعالى".

وعند بيانه لشرط التتابع في صيام كفارة اليمين، الواردة في قوله عز وجل: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم} (المائدة:89)، قال: "وفي تتابع صيامه قولان: أحدهما: يلزمه. قاله مجاهد وإبراهيم. وكان أبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما يقرءان: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات). والثاني: إن صامها متفرقا جاز. قاله مالك وأحد قولي الشافعي". 

* اعتماده على التفسير بالمأثور: كان ابن عبد السلام -شأن أهل التفسير- يعتمد في تبيان المراد من الآيات القرآنية على المنقول من النصوص قرآنا وسنة، وعلى أقوال السلف المتقدمين رضوان الله عليهم أجمعين، ما يعني أن "تفسيره" هذا، إنما يصنف ضمن ما يسمى بكتب التفسير بالمأثور، التي اعتمدت في تفسير القرآن على المنقول من النصوص، وعلى المأثور من أقوال السلف. 

يرشد لهذا المسلك، أن ابن عبد السلام عند تفسيره لقول الله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} (البقرة:238)، نجده يستدل على المراد بـ {الصلاة الوسطى} بقوله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: (شغلونا عن الصلاة الوسطى، حتى غابت الشمس) متفق عليه. 

ومن هذا القبيل، أن ابن عبد السلام عند تفسيره لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} (آل عمران:200)، يذكر من الحديث ما يفسر المراد من (الرباط) في هذا الآية، ويروي في هذا الصدد قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط) رواه مسلم

* عنايته باللغة بذكر أصول الكلمات واشتقاقها: هذا المنهج واضح على صفحات تفسير ابن عبد السلام، فأنت تجده يقوله عند تفسيره لقوله تعالى: {قد خلت من قبلكم سنن} (آل عمران:137)، يقول: "أصل السنة: الطريقة المتبعة في الخير والشر، ومنه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم". وأيضا عند تفسيره لقوله سبحانه: {سنة الله في الذين خلوا من قبل} (الأحزاب:38)، يقول: "السنة: الطريقة المعتادة". وعند تفسيره لقوله تعالى: {واهجروهن في المضاجع} (النساء:34)، يقول: "أصل الهجر: الترك عن قلى، وقبيح الكلام هجر؛ لأنه مهجور". وعند تفسيره لقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة} (التوبة:34)، بين أن المراد بـ "(الكنز) في اللغة: كل مجموع بعضه إلى بعض، ظاهرا كان، أو مدفونا، ومنه كنز التمر".

* عدم الاستطراد في تفسير آيات الأحكام: وهذا منهج واضح عند ابن عبد السلام في تفسيره، ومن الأمثلة عليه ما ذكره عند تفسيره لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} (البقرة:184)، فقد قال بخصوص حكم الصيام في السفر: "يجب القضاء عند داود على المسافر والمريض، سواء صاما أو أفطرا، وعند الجمهور لا يجب القضاء إلا على من أفطر" ، فقد ذكر قول داود الظاهري دون تعقيب عليه على غرابته؛ إذ ليس من شأنه مناقشة الأقوال ولا ردها، بل عرضها باختصار.

* ذكره لبعض القراءات غير المتواترة: نجد هذا المنحى في مواضع عديدة من تفسير ابن عبد السلام، حيث يذكر بعض القراءات الواردة عن السلف؛ ليبين معنى جديدا للآية. ويسمى هذا النوع من القراءات غير المتواترة (القراءات التفسيرية)؛ إذ الغرض الأساس منها بيان معنى آخر للآية. ومن الأمثلة ما ذكره في أثناء بيانه لكفارة اليمين الواردة في قوله تعالى: {إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم} (المائدة:89)، قال: "وقرأ سعيد بن جبير: (من وسط ما تطعمون أهليكم). وعند تفسيره لقوله سبحانه: {فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} (البقرة:185)، قال: "وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما). وعند بيانه لما يتيمم به الوارد في قوله تعالى: {فتيمموا صعيدا طيبا} (النساء:43)، قال: "وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: (فأتوا صعيدا). 

* يذكر باختصار سبب نزول الآية: من الملاحظ أن ابن عبد السلام يذكر أحيانا سبب نزول الآية من غير أن يفصل القول في سبب نزولها، وإذا كان ثمة أكثر من قول في سبب النزول يذكره، لكن من غير ترجيح، أو تعليق، أو تفصيل، والأمثلة الدالة على هذا المسلك كثيرة، منها: عند تفسيره لقوله سبحانه: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام} (البقرة:204)، يذكر أن قوله سبحانه: {وهو ألد الخصام} "نزلت في الأخنس بن شريق"، هكذا من غير تفصيل، أو تعليق، أو تعقيب. وعند تفسيره لقوله عز من قائل: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد} (البقرة:207)، يذكر ابن عبد السلام أن الآية "نزلت فيمن أمر بمعروف، ونهى عن منكر، فقتل. أو في صهيب اشترى نفسه من المشركين بجميع ماله، ولحق بالمسلمين". وعند تفسيره لقوله تعالى: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير} (آل عمران:26)، ذكر العز أن رسول صلى الله عليه وسلم دعا بأن يجعل الله  تعالى ملك فارس والروم في أمته، فنزلت الآية.

* عدم تفسيره للآية ثانية، إذا تقدم تفسيرها: هذا مسلك واضح تماما في تفسير ابن عبد السلام، فعلى سبيل المثال لا الحصر عند ذكره الأقوال التي قيلت في المراد من قوله تعالى: {الم} في بداية سورة البقرة، لم يذكر شيئا في هذا الخصوص في بدايات سور آل عمران، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والسجدة، وهي السور التي بدأت بهذه الحروف. ووفق ذلك السنن سار في تفسيره لقوله تعالى: {حم} في بداية سورة غافر، فقد ذكر ابن عبد السلام أن المراد من هذه الحروف أنها "اسم للقرآن، أو لله أقسم به، أو حروف مقطعة من اسمه {الرحمن}، أو هو محمد صلى الله عليه وسلم، أو فواتح السور. ولم يأت على شيء فيما بعد عند تفسيره لسور الحواميم.

ما تقدم كان أبرز معالم المنهج التفسيري الذي اتبعه ابن عبد السلام في تفسيره، وهو منهج يعتمد النقل أساسا، واللغة مرجعا، والاختصار مسلكا، والوضوح مطلبا، وكشف المعنى غاية. 

هذا، ومن مزايا هذا التفسير اعتماده على المأثور من الأقوال، والرجوع إلى المصادر التفسيرية المعتمدة، والاختصار في عرض المادة التفسيرية، واعتماد مؤلفه لغة سهلة وواضحة، وعرض الأقوال الفقهية من غير تعصب لمذهب معين، وغير ذلك من المزايا. 

ومما يؤخذ على هذا التفسير، أنه ينقل العديد من الأقوال من غير ترجيح، ولا اختيار لقول منها، بل يترك ذلك للقارئ، وليس كل قارئ قادرا على الاختيار الصحيح، ولا على معرفة الراجح من المرجوح. كما يؤخذ على هذا التفسير، أنه لم يعرج على ذكر القراءات القرآنية المتواترة، بل اقتصر على ذكر رواية حفص عن عاصم فحسب. 

وعلى الجملة، فإن تفسير ابن عبد السلام يعد في مصاف التفاسير القرآنية، المعتمدة التي يعول عليها، وينصح بالرجوع إليها؛ وأهم ما فيه، أنه يلبي حاجة القارئ العادي؛ لاختصار مادته التفسيرية، ووضوح أسلوب مؤلفه. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة