لا ينفك المرء عن جهل وظلم {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا}[الأحزاب:72]. فالأصل في الإنسان الجهل وعدم العلم، كما أن طبيعة الإنسان لا تفارق الظلم؛ لذا لا بد من رفع الجهل بالتفقه في دين الله، والتحلي بفضيلة العلم؛ ولاسيما إذا تكالب على المرء ركام الشبهات والشكوك والشهوات والحظوظ التي تحول دون الاهتداء والانتفاع؛ فالقلوب ضعيفة، والشبهات خطافة تجلب الحيرة، والشهوات مزالق تورث السكرة.
كما أن علينا المصابرة والإنابة إلى الله تعالى ومراقبته وخشيته؛ فهو الذي يدفع الظلم ويرفع البغي. فهما أمران: العلم بأحكام الله وشرائعه أمرا ونهيا، والعلم بالله وخشيته ومخافته، (وكفى بخشية الله علما).
فأعظم سبيل للاهتداء هو التفقه في العلم الشرعي، وتحصيل المعارف الدينية، وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.. ولازم ذلك أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد الله به خيرا(مجموع الفتاوى لابن تيمية:20/212).
فالعلم الشرعي يقتضي الاهتداء، ويستلزم أثره من الاستقامة والسداد، وإن كان قد يتخلف مقتضاه لفوات شرط أو قيام مانع[مجموع الفتاوى: 13/246].
فإذا تعلم الشخص وتفقه في دين الله لكن فاتته الهداية ولم يحقق الاستقامة؛ فإن ذلك لعدم رسوخ العلم وغياب التصور التام اليقيني لمسائل العلم؛ إذ التمكن في العلم يستلزم البصيرة والاهتداء.
يقرر ابن تيمية هذه المسألة قائلا: كل عاص فهو جاهل، وكل خائف منه فهو عالم مطيع لله؛ لأن تصور المخوف يوجب الهرب منه، وتصور المحبوب يوجب طلبه، فإذا لم يهرب من هذا، ولم يطلب هذا، دل على أنه لم يتصوره تصورا تاما[الإيمان:19].
وآكد أسباب الاهتداء: الدعاء والافتقار إلى الله - تعالى - فهو أقرب طريق إليه سبحانه؛ فاللجأ إلى الله - تعالى - بأن يسأله الهداية إلى الصراط المستقيم؛ فالعبد مفتقر إلى أن يسأل الله الهداية، وبالسؤال والافتقار يهديه الله ويوفقه كما قال الله - تعالى - في الحديث القدسي: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم.
وأنفع الدعاء وآكده دعاء الفاتحة {اهدنا الصراط الـمستقيم}[الفاتحة:٦]؛ ولذا شرع أن نقوله في الصلاة سبع عشرة مرة في كل يوم (بأقل الأحوال).
فلما كان العبد في كل حال مفتقرا إلى هداية التوفيق في جميع ما يأتيه ويذره من أمور قد أتاها على غير الهداية فهو محتاج إلى التوبة منها، وأمور هدي إلى أصلها دون تفصيلها، أو هدي إليها من وجه دون وجه؛ فهو محتاج إلى تمام الهداية ليزداد هدى، وأمور هو محتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها في المستقبل مثل ما حصل له في الماضي، وأمور هو خال عن اعتقاد فيها فهو محتاج إلى الهداية فيها، وأمور لم يفعلها فهو محتاج إلى فعلها[انظر شفاء العليل لابن القيم:175].
وقد يجد الشخص في نفسه تثاقلا عن الدعاء وتباطؤا عن المناجاة، وسبيل الخلاص من ذلك أن يحاسب نفسه، ويتفقد زلاته وعثراته، فهو طريق إلى الانكسار ودوام الافتقار.
قال ابن القيم: (زكاة النفس وطهارتها موقوفة على محاسبتها؛ فبمحاسبة النفس يطلع على عيوبها ونقائصها، فيمكن السعي في إصلاحها) مدارج السالكين:2/510].
وقال أيضا: (وأضر ما على المكلف: الإهمال وترك المحاسبة والاسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور؛ يغمض عينه عن العواقب، ويمشي الحال)[إغاثة اللهفان:1/136].
والناظر في أخبار المنتكسين يلحظ أن من أسباب ذلك هو الاعتداد بنفوسهم، والعجب بقدراتهم ومواهبهم، والغرور بطاقاتهم. فقد أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء، وأعطوا سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنه سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء. فالاعتماد والركون إلى غير الله لا يخلف إلا الحرمان والخذلان.
ولابن تيمية تحرير بديع الشأن؛ حيث قال: (قد يكون الرجل من أذكياء الناس وأحدهم نظرا ويعميه عن أظهر الأشياء، وقد يكون من أبلد الناس وأضعفهم نظرا، ويهديه الله لما اختلف فيه من الحق بإذنه، فلا حول ولا قوة إلا به؛ فمن اتكل على نظره واستدلاله، أو عقله ومعرفته، خذل) [الدرء:9/34].
ومن الموجع أن جملة من الثقافات المستجدة تقوم على تطبيع القدرات البشرية وتهويلها، وترسيخ الطاقات والاعتماد عليها والثقة بها.
ثم إن من أسباب الانتكاس والضلال: أن في النفوس أهواء وشهوات تأبى لزوم السنة والشرع، وتستروح الروغان والانفلات، فتؤثر هذه النفوس الجامحة المحدث والجديد، بل تنشط وتندفع في المحدثات والضلالات ما لم يكن قبل ذلك، ولكن كما قال ابن مسعود: (اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة).
ولما سئل سفيان بن عيينة: ما بال أهل الأهواء يحبون أهوائهم محبة شديدة؟ قال أنسيت قوله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم}[البقرة: 93].
فالتسليم للشرع يوجب الانقياد والاستجابة للهدى، ومجافاة الهوى. قال تعالى: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم}[القصص:50]، وقد أشار ابن عقيل الحنبلي إلى هذه الآفة فقال: (لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم)[تلبيس إبليس:455].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ