الأدب مع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم

1 1825

لا يتصور ممن يدعي حب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أن تنطلق جوارحه بطاعته واتباعه ، فليس حبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مجرد كلمات مدائح خالية من الاتباع والعمل ، بل باتباعه فيما أمر به ، والتأدب مع أقواله وأحاديثه ، واتخاذه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدوة في الظاهر والباطن ، والعبادات والأخلاق ، قال الله تعالى : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }(الأحزاب: من الآية21)، وقال : {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم }(آل عمران:31) ..

كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ أعظم وأجل في نفوس الصحابة من أن يلغوا إذا تحدث ، أو ينشغلوا عنه إذا تكلم ، أو يرفعوا أصواتهم بحضرته ، وإنما كانوا يلقون إليه أسماعهم ، ويحضرون عقولهم وقلوبهم ، ويحفزون ذاكرتهم ، فعن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ في وصف حال أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ عند سماع قوله وحديثه - صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( وإذا تكلم أطرق جلساؤه ، كأنما على رؤوسهم الطير ، فإذا سكت تكلموا )(الترمذي) ..
وفي ذلك دلالة على السكون التام ، والإنصات الكامل من الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ هيبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتعظيما له ، وإجلالا لحديثه ..

ومع كمال هيبة الصحابة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وشدة تعظيمهم له ، لم يكونوا يترددون في مراجعته - صلى الله عليه وسلم - لاستيضاح ما أشكل عليهم فهمه ، حتى يسهل حفظه بعد ذلك والعمل به ، ومن ذلك حديث حفصة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( إني لأرجو ألا يدخل النار أحد إن شاء الله ممن شهد بدرا والحديبية ) ، قالت : قلت يا رسول الله، أليس قد قال الله : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا }(مريم:71) ، قال : ( ألم تسمعيه يقول : { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } (مريم:72))(ابن ماجه)..

وكانت أسئلة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقصد العلم والعمل ، لا الشهرة والجدال ، لما علموا من كراهة النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسائل التي لا يحتاج إليها ، ولما سمعوا من تحذيره من كثرة السؤال .. فعن الزهري عن سهل بن سعد قال : " كره رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسائل وعابها " .
قال النووي : " .. المراد : كراهة المسائل التي لا يحتاج إليها ، لاسيما ما كان فيه هتك ستر مسلم ، أو إشاعة فاحشة أو شناعة على مسلم أو مسلمة .. قال العلماء: أما إذا كانت المسائل مما يحتاج إليه في أمور الدين ـ وقد وقع ـ فلا كراهة فيها " ..

وقد التزم الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بترك السؤال عما سكت عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلم يتكلفوا السؤال عما سكت عنه حتى لا يؤدي السؤال عن ذلك إلى إيجاب ما لم يوجبه الشرع ، أو تحريم ما لم يحرمه ، فيكون السؤال قد أفضى إلى التضييق على المسلمين ، كما قال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم }(المائدة : من الآية101) .. وحذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من مثل ذلك ، فعن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن أعظم المسلمين جرما(ذنبا) من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته )(البخاري) .

وكان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إذا سمعوا شيئا من النبي - صلى الله عليه وسلم - وحملوا عنه علما ، جلسوا فتذاكروه فيما بينهم ، تأكيدا لحفظه ، وتقوية لاستيعابه وضبطه والعمل به .. وقد بقى مبدأ المذاكرة قائما بين الصحابة حتى بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ، فعن علي بن الحكم عن أبي نضرة قال : " كان أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا اجتمعوا تذاكروا العلم .." ..

ومن الأدب مع قوله وحديثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما يقول ابن القيم : " أن لا يستشكل قوله ، بل تستشكل الآراء لقوله ، ولا يعارض نصه بقياس ، بل تهدر الأقيسة وتلقى لنصوصه ، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولا ، ولا يوقف قبول ما جاء به على موافقة أحد " ..

وكذلك من الأدب مع أحاديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معرفة قدرها ، والعمل بها ، وعدم تقديم قول أحد عليها ، فقد قال الله ـ عز وجل ـ عن كلامه وحديثه ـ صلى الله عليه وسلم : { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى }(النجم 3 : 4) .. ومن ثم كان أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ إذا أراد أن يحدث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " هلموا إلى ميراث نبيكم " ..

وقال مالك : " جاء رجل إلى ابن المسيب فسأله عن حديث وهو مضطجع فجلس وحدثه ، فقال له الرجل : وددت أنك لم تتعن ، فقال : إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا مضطجع " ..
وقال مصعب بن عبد الله : كان مالك بن أنس إذا حدث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ توضأ وتهيأ ولبس ثيابه ثم يحدث .. قال مصعب : فسئل عن ذلك فقال : إنه حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..

وذكرالسيوطي عن الشافعي أنه روى يوما حديثا وقال إنه صحيح ، فقال له قائل : أتقول به يا أبا عبد الله ؟ ، فاضطرب وقال : " يا هذا أرأيتني نصرانيا ؟ ، أرأيتني خارجا من كنيسة ؟ ، أرأيت في وسطي زنارا ؟ ، أروي حديثا عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا أقول به !"..

ومن أقوال الإمام الشافعي في الأدب مع حديث وسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أجمع المسلمون على أنه من استبان له سنة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحل لأحد أن يدعها لقول أحد ". وقال : " إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقولوا بقول رسول الله ، وهو قولي " .. وقال : " إذا صح الحديث فهو مذهبي " ، " كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت ، فأنا راجع عنه في حياتي وبعد موتي " .

ومن أقوال الإمام أحمد بن حنبل في ذلك : " لا تقلدني ، ولا تقلد مالكا ، ولا الشافعي ، ولا الأوزاعي ، ولا الثوري ، وخذ من حيث أخذوا " .
وقال : " من رد حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فهو على شفا هلكة " .

هكذا كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وسلف وعلماء الأمة يتأدبون مع أحاديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حياته وبعد وفاته ، ولا يقدمون قول أحد على قوله إن ثبت وصح عنه ، وهذا من تمام حبه والأدب معه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
قال ابن القيم : " ومن الأدب مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أن لا يتقدم بين يديه بأمر ولا نهي ، ولا إذن ولا تصرف حتى يأمر هو وينهى ويأذن ، كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم } (الحجرات:1) ، وهذا باق إلى يوم القيامة ولم ينسخ ، فالتقدم بين يدي سنته بعد وفاته كالتقدم بين يديه في حياته ، ولا فرق بينهما عند ذي عقل سليم .." ..
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة