- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:خصوصيات الرسول صلى الله عليه وسلم
من مظاهر عظمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودلائل نبوته أنه صاحب الحكمة البالغة ، والكلمة الصادقة ، واللسان المبين ، وقد فضله الله ـ عز وجل ـ على غيره من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ بأن أعطاه جوامع الكلم، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتكلم بالكلام الموجز ، القليل اللفظ الكثير المعاني ، وهو ما يسره الله له من البلاغة والفصاحة ، وبدائع الحكم ومحاسن العبارات ..
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ( فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون )( مسلم ) .
وإذا كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اتصف بصفات لم تجتمع لأحد قبله ولا بعده ، فقد كان أفصح الناس ، وأعذبهم كلاما ، وأحلاهم منطقا ، حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب ويأسر الأرواح ، يعده العاد ، ليس بسريع لا يحفظ ، ولا بكلام منقطع لا يدركه السامع ، بل هديه فيه أكمل الهدي ، شهد له بذلك كل من سمعه ، ووصفته أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ بقولها : ( ما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسرد سردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بين فصل، يحفظه من جلس إليه ) ( الترمذي ).
وهذه الخاصية للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، جعلت الكثير من فقهاء الإسلام يختارون من أحاديثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعض الأحاديث القليلة التي لو أضيفت بعضها إلى بعض فإنها تعبر عن الإسلام بكامله . ومن أمثلة ذلك ما فعله الإمام أحمد بن حنبل حين قال : " أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث : حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ : ( إنما الأعمال بالنيات )( البخاري ) ، وحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه، فهو رد )( البخاري )، وحديث النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ : ( الحلال بين والحرام بين )( البخاري ) " .
قال العز بن عبد السلام : " ومن خصائصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه بعث بجوامع الكلم، واختصر له الحديث اختصارا، وفاق العرب في فصاحته وبلاغته " ..
وقال ابن شهاب فيما نقله البخاري في صحيحه : " بلغني في جوامع الكلم أن الله يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله .." .
وقال سليمان النوفلي : " كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتكلم بالكلام القليل يجمع به المعاني الكثيرة " ..
وجوامع الكلم التي خص بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على نوعين كما ذكر ذلك ابن رجب الحنبلي فقال:" أحدهما : ما هو في القرآن كقوله تعالى : { إن الله يأمر بالعدل والأحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون }(النحل:90)، قال الحسن البصري : " لم تترك هذه الآية خيرا إلا أمرت به ، ولا شرا إلا نهت عنه " .. الثاني : ما هو في كلامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو منتشر موجود في السنن المأثورة عنه ، ومن ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرء ما نوى )(البخاري) ، قال الشافعي : " هذا الحديث ثلث العلم ، ويدخل في سبعين بابا من الفقه " .
وعن فصاحته وبلاغته ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول القاضي عياض : " وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول ، فقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ من ذلك بالمحل الأفضل ، والموضع الذي لا يجهل ، سلاسة طبع ، وبراعة منزع ، وإيجاز مقطع ، ونصاعة لفظ ، وجزالة قول ، وصحة معان ، وقلة تكلف ... أوتى جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم ، وعلم ألسنة العرب ، فكان يخاطب كل أمة منها بلسانها ، ويحاورها بلغتها ، ويباريها في منزع بلاغتها ، حتى كان كثير من أصحابه يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله .." .
وعن كلامه المعتاد يقول : " وأما كلامه المعتاد، وفصاحته المعلومة ، وجامع كلمه وحكمه المأثورة ، فقد ألف الناس فيها الدواوين ، وجمعت في ألفاظها ومعانيها الكتب ، ومنها ما لا يوازى فصاحة ، ولا يبارى بلاغة "..
ثم ذكر رحمه الله أمثلة كثيرة من أقواله ـ صلى الله عليه وسلم ـ التي تؤيد ذلك، منها : قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن )( الترمذي ) ، وقوله : ( الدين النصيحة ، قلنا : لمن يا رسول الله ؟ ، قال : لله عز وجل ، ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )( البخاري ) ، وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )( أحمد ) ، ( المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد واحدة على من سواهم )( أبو داود ) ، ( الناس معادن )( البخاري ) ، ( المستشار مؤتمن )( أبو داود ) ، ( ورحم الله عبدا قال خيرا فغنم ، أو سكت عن شر فسلم )( أبو داود ) ، ( أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين )( البخاري ) ، ( الظلم ظلمات )( مسلم ) .. إلى غير ذلك مما روته الكافة عن الكافة ، من مقاماته ومحاضراته ، وخطبه وأدعيته ، ومخاطباته وعهوده ، مما لا خلاف أنه نزل من ذلك مرتبة لا يقاس بها غيره ، وحاز فيها سبقا لا يقدر قدره .." ..
ومن بلاغته وفصاحته وجوامع كلمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما قاله من الكلم الذي لم يسبق إليه ، ولا قاله أحد قبله ، كقوله: ( لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين )( البخاري ) ، ( حمي الوطيس ) ( أحمد ) .. قال جابر ـ رضي الله عنه ـ: " والله إنها كلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " . وحمي الوطيس أي اشتدت الحرب ..
إن بلاغة وفصاحة الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجوامع كلامه ، لا عجب فيها ولا غرابة إذ خصه الله ـ عز وجل ـ بالعناية ، وفضله على سائر خلقه ، وهيأه للوحي ، وحمله البلاغ والبيان ، ففصاحة لسانه ـ صلى الله عليه وسلم ـ غاية لا يدرك مداها ، ومنزلة لا يدانى منتهاها ، فهو أفصح خلق الله إذا تكلم ، كلامه كله يثمر علما ، ويمتثل شرعا وحكما ، ولا يتكلم بشر بكلام أحكم منه في مقالته ، وحري بمن عبر عن مراد الله بلسانه ، وأقام الحجة على عباده ببيانه ، وبين مواضع فروضه ، وأوامره ونواهيه ، أن يكون أحكم الخلق بيانا ، وأفصحهم لسانا .. ومن ثم كانت أحاديثه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذاتها قواعد كلية جاهزة أو قابلة لأن تصاغ منها القواعد والأصول الفقهية ..
وبالجملة فلا يحتاج العلم بفصاحته وبلاغته ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى شاهد ، ولا ينكرها موافق ولا معاند ، وكيف لا يكون كذلك وهو خاتم النبيين ، وسيد المرسلين، وعلى قلبه نزل القرآن العظيم ، وقد زكى الله تعالى قوله ونطقه فقال : { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى }(النجم 4:3) وقال سبحانه : { نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين } (الشعراء 193: 195) .. فأوتي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصارا ، وجمع الله له المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة يسيرة ، ليسهل حفظها وتبليغها ، وجعل ذلك من أدلة نبوته ، وأعلام رسالته ، وكل هذا من الحفظ الذي تكفل الله به لهذا الدين ...