الحمد لله.. ثناء ودعاء

7 1943

الحمد لله، كلمة مباركة، وهي ثناء في دعاء، ودعاء في ثناء. تجري على الألسنة بسهولة ويسر، وهذا من فضل الله على عباده. الكلمة التي اختارها الله فاتحة لكتابه العزيز، لأن أسرارها وكنوزها لا تنفد. يقول سيد قطب رحمه الله: (والحمد لله، هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره لله، فإن وجوده ابتداء ليس إلا فيضا من فيوضات النعمة الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء، وفي كل لمحة، وفي كل لحظة، وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله وتتواكب وتتجمع، وتغمر خلائقه كلها، وبخاصة هذا الإنسان، ومن ثم كان الحمد لله ابتداء، وكان الحمد لله ختاما قاعدة من قواعد التصور الإسلامي).

فما معنى هذه الكلمة؟ وما دلالاتها مما هو موقفها في حياة الإنسان؟
يقول ابن القيم رحمه الله: الحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه.
الرب الإله المحمود في الدنيا والآخرة.. المحمود قبل أن يخلق وبعد ما يخلق، وبعد إفناء الخلق وبعد بعثهم (وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون) (القصص:70).
محاسنه تعم الكائنات جميعا، محاسنه في ذاته، وفي أسمائه الحسنى، وفي صفاته العليا، يخبرنا بها فضلا منه ورحمة، ويعرفنا بجلاله وجماله وكماله.. محاسنه في لطفه وعلمه وعزه وقدرته وحكمته.. محاسنه في بره وجوده وفضله.. محاسنه في إحسان خلقه (الذي أحسن كل شيء خلقه )(السجدة:7)، (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)(التين:4). محاسنه في إرسال رسله وإنزال كتبه لهداية عباده، محاسنه التي لا يأتي عليها عد ولا حصر، كل هذا وغيره كثير متضمن كلمة الحمد لله، يجري بها لسان العبد، ويتجاوب الله مع عبده وهو يلفظها، (فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي) (رواه مسلم).
حب وإجلال وتعظيم
قد تذكر محاسن إنسان، لكنك لا تحبه، ولا تجد في قلبك ميلا إليه ولا إجلالا ولا تعظيما.. بيد أنك عندما تذكر محاسن ربك اللامتناهية، لا يسعك إلا أن تحبه أشد الحب، (والذين آمنوا أشد حبا لله) وتجد في نفسك فيوضات جلاله، ويمتلئ فؤادك بتعظيمه، وتعمر أوقاتك بحمده وشكره وشهود منته، والرضا عن أفعاله. كل هذا وغيره تتملاه عندما تنطق بـ "الحمد لله"، فتتذوق حلاوتها وطلاوتها ولذتها، وتسيطر على جوانحك السكينة والطمأنينة والفرح والسرور.
أفضل الدعاء
والحمد لله هي أفضل الدعاء.. وسر ذلك أنها متضمنة للثناء على الله عز وجل، روى الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله)، أخرجه الترمذي: وحسنه ابن حجر والألباني والأرنؤوط.
وهذا فيض آخر من فيوضات الرب عز وجل، قال المناوي:لأن الدعاء عبارة عن ذكر الله، وأن تطلب منه الحاجة، والحمد يشملهما، فإن الحامد لله إنما يحمده على نعمه، والحمد على النعم طلب المزيد، وهو رأس الشكر، قال تعالى: "لئن شكرتم لأزيدنكم"
قال بكر بن عبد الله المزني: رأيت حمالا عليه حمله وهو يقول: الحمد لله، أستغفر الله، فانتظرته حتى وضع ما على ظهره، وقلت له: ما تحسن غير ذلك؟ قال: بلى أحسن خيرا كثيرا، أقرأ كتاب الله، غير أن العبد بين نعمة وذنب، فأحمد الله على نعمه السابغة، وأستغفره لذنوبي، فقلت: الحمال أفقه من بكر.
وقال الطيبي: لعله جعل أفضل الدعاء من حيث إنه سؤال لطيف يدق مسلكه.
ملء الميزان
الأعمال لها تأثير كبير في تقريب العبد من ربه أو إبعاده عنه، وبعض الأعمال أشد تأثيرا من البعض الآخر، ففي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض).
ما أعظم هذا الفيض، وما أجزل هذا العطاء والكرم الذي لا يمكن مجرد تصوره. كلمة واحدة تملأ الميزان بالثواب والعطاء، تجده موفرا يوم توزن الأعمال. كم بين السموات والأرض من مسافات هائلة لا يعلم مداها إلا الله؟ مسافات ليست بالأمتار، بل بمئات الملايين من السنين الضوئية. سبحان الله والحمد لله تملآن هذه المسافات. إن هذا العطاء لا يقدر عليه إلا من يعطي بغير حساب.
بيت الحمد
استحقاق عن جدارة في مقام الصبر على فقدان الولد عند الصدمة الأولى، والحمد وإرجاع الأمور إلى الله برضا وتسليم، بيت لا تقوم له كل بيوتات الدنيا، روى الترمذي عن أبي موسى رضي الله عنه  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد" قال أبو عيسى: حسن غريب وحسنه ابن حجر والسيوطي والألباني.
ما ألذ الجزاء، وما أحلى حلية بيت الحمد، فحقيق لمن فقد ثمرة فؤاده، ولم يعد ذلك مصيبة من كل وجه، بل مصيبة من وجه فاسترجع، ونعمة من وجه فحمد الله، أن يقابل بالحمد في تسمية محله به، فيكون محمودا حتى في المكان الذي سمي به، بيت يليق بصبره على المصيبة العظيمة.
وفي السراء والضراء حمد
لا ينفك العبد المؤمن عن حمد ربه في كل أحواله وتقلباته، فلا تسكره نشوة الفرح عن حمد ربه، ولا يذهل عن الحمد في المدلهمات والخطوب.. روى ابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحب قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا رأى ما يكره قال: الحمد لله على كل حال. صححه السيوطي، وحسنه الألباني.
حمد النزع
حق الله لا يقدر بزمن ولا بعمل، والعبد المؤمن ينضح الخير منه حتى في أواخر لحظات حياته، يحمد الله في كل حال، وعلى كل حال، سواء في السراء والضراء، فالخير يتمثل فيه، وهو مستسلم لأمر الله وقضائه، ولا يرى من مولاه إلا كل خير، ولا يفتر عن ذكره حتى في الرمق الأخير، في أشق الأهوال عند نزع روحه، (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)(الحجر:99)، ولم أجد حالا أجمل من حال المؤمن الذي يبقى أشد تعلقا بربه، يحمده حتى في مثل هذه الحالة. روى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن عبدي المؤمن عندي بمنزلة كل خير، يحمدني وأنا أنزع نفسه من بين جنبيه). حسنه ابن حجر.
كان الجنيد يقرأ وقت خروج روحه، فقيل له: في هذا الوقت! قال: أبادر طي صحيفتي.. ما هذا الحب الفريد النادر لله؟ إن العبارات لتعجز عن تصوير هذه الحالة مهما كانت دقة المصور.
نسيان الذات ابتغاء حمد الله
العالم القدوة الموفق يسعى في تعليم الخلق كيف يحمدون الله.. ففي طبقات الشافعية عن القاضي حسين قال:كنت عند القفال (عبدالله بن أحمد القفال)، فأتاه رجل قروي وشكى إليه أن حماره أخذه بعض أصحاب السلطان، فقال له القفال: "اذهب فاغتسل، وصل ركعتين، واسأل الله أن يرد عليك حمارك"، فأعاد عليه القروي كلامه، فأعاد عليه القفال، فذهب القروي فاغتسل، ودخل المسجد وصلى، وكان القفال قد بعث من يرد حماره، فلما فرغ من صلاته رد الحمار، فلما رآه على باب المسجد خرج وقال: الحمد لله الذي رد علي حماري، فلما سئل القفال عن ذلك قال: أردت أن أحفظ عليه دينه كي يحمد الله تعالى.
وعند زوال الظالمين حمد
مكافحة الظالمين والطواغيت من أوجب الواجبات، لأن هؤلاء من أكبر العقبات التي تحول بين الناس وعبادة ربهم، والله خلق الجن والإنس لعبادته، وبعد معارك مريرة، وتضحيات هائلة تتطهر الأرض من رجسهم وإفسادهم وصدهم عن سبيل الله.. الأمر الذي يستوجب الحمد، (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين)(المؤمنون:28). (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) (الأنعام:45).
حمد لا يفتر
وهكذا يظل العبد حامدا لله، ديمة عند استيقاظه وعند منامه. في خلوته وفي جلوته، بعد إطفاء نار عطشه، وبعد سد جوعة بطنه، في حال سقمه أو بعد ما يأذن الله له بشفائه، عندما يواري عورته باللباس والزينة، أو يأوي إلى بيته وفراشه في كل شؤونه وتصريفاته إلى وقت نزع روحه من بين جنبيه، ثم هو حمد لا يفتر في الجنة كما روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه (.... يلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس).. حمد لله على ذهاب الحزن والكروب, (جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير. وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور)(فاطر:33-34). وحمد على منة الهداية التي خولتهم دخول الجنة. (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون * ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون)(الأعراف:42-43)
وإن أقصى ما يشغل أهل الجنة تسبيح الله أولا وحمده آخرا، يتخللهما تحيات السلام، (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين)(يونس:10).
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الشيخ: عبدالعظيم عرنوس

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة