وجدت ما وعدني ربي حقا

0 1274

انتهت معركة بدر بانتصار المسلمين ، وبهزيمة ساحقة للمشركين ، وكان قتلى المشركين سبعين رجلا ، وأسر منهم سبعون ، وكان أكثرهم من قادة قريش وزعمائهم ، واستشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا ، منهم ستة من المهاجرين ، وثمانية من الأنصار ، ولما انهزم المشركون أرسل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة ليبشرا المسلمين في المدينة بنصر الله .. وقد تلقى المسلمون الخبر بسرور كبير، وقد ذكر أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ أنه لم يصدق الخبر إلى أن رأى الأسرى ، وقد علت الدهشة الناس ، إذ لم يصدقوا في البداية أن قريشا قد هزمت ، وأن زعماءها قد أصبحوا بين قتيل وأسير ، وتحطم كبرياؤهم وجبروتهم ، وظهرت حقيقة آلهتهم الزائفة ، وعقائدهم الباطلة ..

ومن المعلوم أن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لا يعلمون الغيب ، ولا اطلاع لهم على شيء منه ، فقد قال الله تعالى : { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون }(الأنعام: 50).. وكما جاءت الأدلة تدل على أن الله ـ تبارك وتعالى ـ قد اختص بمعرفة علم الغيب ، وأنه استأثر به دون خلقه ، جاءت أدلة أخرى تفيد أن الله تعالى استثنى من خلقه من ارتضاه من الرسل ، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم , وجعله معجزة لهم ، ودلالة صادقة على نبوتهم ، قال تعالى : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا }(الجن: 26، 27) .

وقد اشتهر وانتشر أمره - صلى الله عليه وسلم - بإطلاع الله له على بعض المغيبات ، وكان لأحداث غزوة بدر نصيب من تلك المعجزات الغيبية ، ومنها :

إخباره ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مصرع الطغاة ورؤوس الكفر وأسمائهم وأماكن مصرعهم قبل المعركة .

عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : ( كنا مع عمر بين مكة والمدينة فتراءينا الهلال ، وكنت رجلا حديد البصر فرأيته ، وليس أحد يزعم أنه رآه غيري ، قال: فجعلت أقول لعمر أما تراه ؟ ، فجعل لا يراه ، قال : يقول عمر : سأراه وأنا مستلق على فراشي ، ثم أنشأ يحدثنا عن أهل بدر ، فقال : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يرينا مصارع أهل بدر بالأمس يقول : هذا مصرع فلان غدا إن شاء الله ، قال : فقال عمر : فوالذي بعثه بالحق ما أخطئوا الحدود التي حد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قال : فجعلوا في بئر بعضهم على بعض ، فانطلق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى انتهى إليهم فقال : يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا ، فإني قد وجدت ما وعدني الله حقا ، قال عمر : يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها ؟! ، قال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا علي شيئا )( مسلم ) .
وقال قتادة ـ في رواية البخاري ـ: " أحياهم الله حتى أسمعهم قوله، توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما " ..

وفي وقوف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على فم البئر ينادي قتلى المشركين ويكلمهم بعد موتهم عظة وعبرة ، إذ أنهم الآن بعد قتلهم وموتهم في حياة جديدة ، هي حياة البرزخ الخاصة ، التي لا ندري حقيقتها وكيفيتها ، وهو أمر يتعلق بعالم الغيب .
فالإيمان بهذه الحياة وما يحدث فيها من عقائد المسلمين ، فنعيم القبر وعذابه ثابتان في صحيح الأحاديث ، من ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حينما مر بقبرين : ( إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير )( البخاري ) ، فأثبت ـ صلى الله عليه وسلم ـ عذاب القبر ، وأخبر أن سبب تعذيبهما النم بين الناس وعدم الاستنزاه من البول .
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر )( مسلم ) .
فعذاب القبر أمر غيبي، والأمور الغيبية مجالها الاعتقاد ، لأنها لا تدرك بالعقول ، فيجب الإيمان بها والتسليم ، بعد أن تحدث عنها الصادق ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووصلتنا بطريق ثابت صحيح ..

وكما شهد الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ نزول الملائكة في بدر ، هاهم الآن يشهدون حوار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع صناديد الكفرـ بعد قتلهم ـ وقد انتهت المعركة ـ ، يعرفهم مصيرهم الأسود ، ويحدثهم أنه قد وجد ما وعده ربه حقا ، فقد تكلل النصر ، وتحقق الوعد، وهاهي جثثهم منتنة في أحد آبار بدر ، وفي ذلك إعلان لانتصار الإيمان على الكفر ، وعلو الحق على الباطل ..

وكم زرع هذا الحدث في نفوس المسلمين من الثقة واليقين ، والسعادة الغامرة ، وهم يشهدون ويسمعون هذا الحوار من رسولهم وقائدهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع زعماء الكفر ، أن قد وجد ما وعده ربه حقا من النصر والتمكين ، فهل وجدوا ما وعدهم ربهم حقا ، ويأتي الجواب الصامت منهم أن قد وجدوا ما أخبر به ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولكنهم لا يستطيعون الكلام ..

إن إخبار الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن مصارع الطغاة في بدر ومخاطبتهم بعد قتلهم ، درس من مدرسة بدر الكبرى ، التي يجب على المسلمين في جميع العصور أن يقفوا أمامه ، لينظروا من خلاله إلى المعايير الإيمانية في مواجهة الحق مع الباطل ، وكيف أن الفئة المؤمنة ـ القليلة العدد والعتاد والمستضعفة في الأرض ـ حين تسلحت بالإيمان بالله، وأخلصت لربها ، وأطاعت نبيها ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وثبتت أمام الفتن والابتلاءات ، وتخلصت من الأهواء والشهوات ، فإن الله تعالى أعزها ونصرها على زعماء الكفر ، وتحقق لها النصر الذي وعد الله به عباده ، قال الله تعالى : { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون }(الصافات173:171) ..
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة