- اسم الكاتب: الشرق الأوسط العدد 12080
- التصنيف:تاريخ و حضارة
سوف يؤرخ في المستقبل بحريق "المجمع العلمي" تماما كما نتحدث اليوم عن فجيعة حريق مكتبة الإسكندرية. الحدث جلل.. مصر فقدت وثائقها الوطنية الأكثر سرية بفعل عبث مريب أثار شكوكا كبيرة. من له مصلحة في حرق صرح يحوي معاهدات وخرائط واتفاقات وطنية؟ من دمر خزانة لكتب علماء زاروا مصر طوال 200 عام، ومكانا لعمل الجبرتي والشيخ العطار؟ وما هي الوثائق المهمة التي ضاعت وإلى الأبد؟
في مشهد لا يتكرر في التاريخ الإنساني كثيرا، ولا يحدث إلا في عصور أظلمت تماما حتى حطم السائرون مصابيح النور، وقف العلماء والباحثون عن المعرفة في العالم كله على أطراف أصابعهم وهم يشاهدون على شاشات الفضائيات صبيان وسط القاهرة ومقاهيها يرقصون رقصا هستيريا بجوار نوافذ أقدم هيئة علمية في العالم العربي، بل في الشرق الأوسط كله. إنه مشهد حريق "المجمع العلمي المصري"، الذي حق لنا الآن أن نضع بين هلالين تاريخ ميلاده وكذلك - وهو المؤلم والقاتل - تاريخ وفاته (1798 - 2011).
في لحظة واحدة من ليل السبت 17 ديسمبر (كانون الأول) 2011، تمنى مثقفون وعلماء مصريون وعرب، أن لم يكن الله قد مد في أعمارهم حتى هذا اليوم الأسود في تاريخ مصر والبشرية كلها.
نحو 200 ألف مجلد نادر أتت النيران عليها تقريبا، بالإضافة إلى مجموعة غير قليلة من الخرائط والأطالس والوثائق والأبحاث والاختراعات الدقيقة والرسوم الإنشائية لمعظم المشروعات القومية المصرية في العصر الحديث؛ من القناطر الخيرية إلى خزان أسوان إلى السد العالي، مع رسوم دقيقة لوديان البحر الأحمر مرتبطة بأبحاث علمية قام بها باحثون من مصر وخارجها.. كل ذلك تقريبا التهمته نيران الصبي الراقص منتشيا خارج النافذة تشاهده عيون باكية في أركان المعمورة. هكذا لوثت ثوب الثورة المصرية العظيمة بقعة سوداء. هل يمكن أن تفلح جهود المرممين والأثريين الذين يمسكون الآن ببقايا هذا الحريق في غسلها وإزالتها؟!
في غرف دار الكتب والوثائق المصرية تتناثر الآن حمولة نحو عشر عربات من الأوراق المحترقة والكتب الممزقة، وكأنها من مصابي حرب شرسة، بين أيدي المرممين.
يقول وزير الثقافة المصري الدكتور شاكر عبد الحميد، إن "الصالح منها لا يتجاوز العشرين ألف مجلد"، منها حسب تصريحات الدكتور زين عبد الهادي رئيس الإدارة المركزية بدار الكتب المصرية عشرة مجلدات إصاباتها خفيفة من مجلدات الكتاب الموسوعي "وصف مصر" الذي ألفه علماء الحملة الفرنسية، فيما انتقل باقي الكنز العلمي والمعرفي للمجمع العلمي المصري إلى مقبرة النسيان. ولا يظن أحد أنه من المجدي الطلب الفرنسي بالتحقيق ولا عروض التعويض عن بعض المخطوطات الأصلية ولا العروض الدولية بمحاولة ترميم المبنى الذي يتداعى الآن للسقوط المحزن والأليم.
كان هذا هو المشهد الأخير لهيئة علمية عريقة سوف يكون الحديث عنها من الآن فصاعدا بصيغة الغائب، لكنه الواقع الذي يجب أن نواجهه جميعا، ولا عزاء للبشرية في فقدان أحد كنوزها الثمينة.
هو مشهد مربك حقا لا يستطيع معه المتابع أن يأخذ مواقف حادة من أي من الأطراف الفاعلة فيه، فقد احترق المجمع العلمي المصري في أحداث ثورة شعبية تبتغي نقل المجتمع المصري من عصور الاستبداد إلى ديمقراطية وحرية الإنسان المعاصر.
الغريب حقا أن الارتباك الذي يشعر به المتابع لأحداث المشهد الأخير في حياة المجمع العلمي هو نفسه الارتباك الذي يشعر به إزاء المشهد الأول - مشهد التأسيس. لقد تم تأسيس هذا المجمع الشهير على يد محتل أجنبي، ولا شك أن مصر المتطلعة إلى المستقبل والكرامة في السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر شعرت بالحيرة نفسها إزاء مؤسسة علمية رصينة تقدم المعرفة وتصنعها على مائدة الاحتلال الفرنسي لمصر عام 1798. وهو ما دفع علماء وشيوخ المصريين عند تأسيس هذا المجمع إلى النظر إليه بعين السخرية أحيانا والخوف أحيانا أخرى حيث أهمله المصريون عقب خروج الفرنسيين من مصر عام 1801، حتى أعاده الخديوي سعيد للحياة منتصف القرن التاسع عشر، لكن الشيخ حسن العطار أحد أهم الأساتذة والشيوخ الذين تتلمذ عليهم رفاعة الطهطاوي المولود في العام نفسه الذي رحل فيه علماء وجنود الحملة الفرنسية (1801) كان من المترددين عليه باستمرار، ويبدو أن هذه الزيارات هي التي كانت وراء تشجيعه لرفاعة.
هذه الحيرة القاتلة هي التي تدفع الكثيرين للظن بأن حريق المجمع العلمي لم يكن عملا عفويا غير مقصود، بل مؤامرة مدبرة للقضاء على تاريخ مصر. الدكتور محمد الشناوي، أمين عام المجمع، تساءل عن "السبب وراء حريق المجمع فيما لم يتسخ طلاء الجامعة الأميركية التي لا يفصل بينها وبين المجمع سوى أمتار قليلة!".
لكن الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، المرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية – وعلى خلفية سياسية - فجر قنبلة في جامعة الفيوم (80 كم جنوب غربي القاهرة)، حسب موقع "اليوم السابع" الإلكتروني، حينما أكد أن "حريق المجمع العلمي كان متعمدا لإخفاء وثائق ومستندات وخرائط تخص الأمن القومي المصري"، مشيرا إلى أن "هناك اتفاقيات لا يعلمها الشعب المصري، وأن بعض رؤساء مصر وقعوا اتفاقيات غير معروفة للشعب وكانوا يرضخون لضغوط خارجية تحت تهديد أنهم لا يمثلون الشعب المصري"، وأن "المجمع العلمي يحوي خرائط ومخطوطات مهمة هي من أهم المستندات الرئيسية؛ من بينها مستندات استرداد طابا. وقد هدف الحريق إلى إخفاء متعمد لكل شيء يمتلكه أبناء مصر". هذا التصور وإن كان - ربما - يحمل مبالغة سياسية فإنه يؤكد الحيرة البالغة التي يشعر بها المصريون جميعا الآن إزاء حرق صرح علمي إنساني.
بعد إهمال المجمع العلمي عقب خروج الفرنسيين من مصر، لم يكن متاحا أن ينشط مرة أخرى إبان حكم محمد علي الذي تولى مصر عام 1805، ولم يكن متاحا كذلك أن ينشط إبان حكم الخديوي عباس الأول الذي أهمل التعليم تماما، بل أغلق عددا ليس بالقليل من المدارس التي كانت قد تأسست في عهد محمد علي، حتى حكم الخديوي سعيد فأعاد للمجمع بعضا من روحه حين أعاد تشغيله في الإسكندرية منذ عام 1856، واستمر حتى عام 1880، وهو العام الذي نقل فيه مرة أخرى إلى القاهرة.
منذ ذلك الحين وحتى احتراق المجمع العلمي منذ أيام، تعاون مع المجمع مجموعة كبيرة من العلماء المصريين والعرب والأجانب، ليس أولهم ماسبيرو الذي رصد الحالة الأثرية المصرية وصاحب قانون منع التنقيب عن الآثار على الأفراد وقصره على الحكومة المصرية، وليس آخرهم شامبليون صاحب الاكتشاف المذهل الذي تم بناء عليه فك رموز حجر رشيد الذي فتح باب الحضارة المصرية القديمة عبر معرفة أبجديتها الهيروغليفية والأبجديات المتطورة عنها.
ولم يقف المصريون من ذلك الجهد موقف المتفرج، حيث تعاون في ذلك مجموعة غير قليلة من العلماء المصريين. ومن هؤلاء مثلا محمود الفلكي الذي سافر عام 1850 هو وزميلاه إسماعيل مصطفى وحسين إبراهيم في بعثة إلى فرنسا لدراسة الطبيعة بترشيح من علي باشا مبارك، وقد نشر محمود الفلكي وهو في باريس عددا من الأبحاث الفلكية والجيوفيزيقية في المجلات العلمية الأوروبية. وقد نجح محمود الفلكي في قياس شدة المجال للمركبة الأفقية للقوى المغناطيسية الأرضية في ثلاثين مدينة ألمانية وبلجيكية لصالح أكاديمية العلوم البلجيكية، وبتكليف من الحكومة المصرية، ثم شملت أبحاثه الجزر البريطانية وهولندا وفرنسا وبلجيكا، حيث عين الميل المغناطيسي للمحصلة الكلية للمجال المغناطيسي الأرضي في خمس وأربعين محطة أرصاد في مدن هذه الدول، وأنهى رصده بإيجاد خريطة دقيقة لهذه المنطقة الجغرافية، وقارن بين النتائج التي توصل إليها ونتائج العالم الفلكي الإنجليزي إدوارد سايين عام 1837 والتي اقتصرت على الجزر البريطانية فقط.
عاد محمود الفلكي من فرنسا عام 1859 في عهد سعيد باشا، الذي أعاد الحياة للمجمع العلمي مرة أخرى، وانتخب الرجل - بطبيعة الحال - عضوا في المجمع العلمي المصري، كما انتخب وكيلا للجمعية الجغرافية المصرية التي أصبح بعد ذلك رئيسا لها. وقد أشرف على المرصد الفلكي بعد نقله من بولاق إلى العباسية (القاهرة)، كما قام برسم خريطة طبوغرافية للقطر المصري.
لمحمود الفلكي مجموعة كبيرة من الأبحاث العلمية المهمة التي احترقت مع ما احترق من كنوز المجمع العلمي، من هذه الأبحاث بحث "في التنبؤ عن مقدار فيضان النيل قبل فيضانه" الذي وضعه بعد أن جمع بيانات عن فيضان النيل من عام 1825 إلى عام 1864. وقد أصبح بحثه هذا مرجعا أساسيا لتقديرات الري في مصر حتى الآن. كما ألف بحثا مهما بالفرنسية – احترق بالضرورة هو أيضا – عن مدينة الإسكندرية وآثارها وأماكن هذه الآثار.
يقول المصريون في أمثالهم الشعبية "العايط في الفايت نقصان عقل"، أي أن الباكي على ما فات ناقص العقل، لكن الجاهل هو من لا يتعلم من أخطائه، ولا شك عند الجميع أن الخطأ هذه المرة كبير.
لقد أدى الصراع على الدولة ومؤسساتها هذه المرة إلى الإضرار بالوطن كله، بل إلى الإضرار بالمنجز العلمي البشري في زاوية مهمة من زواياه، والكل في مثل هذه الحالات مدان، حكاما ومحكومين ومثقفين وعلماء وثوارا.
ضرب المجمع العلمي مرات ومرات.. ضرب حين أهملته الدولة المصرية بعد ثورة يوليو (تموز) 1952، حين حولت تبعيته التي كانت للملك إلى وزارة الشؤون الاجتماعية.
وضرب مرة أخرى حين استولت الدولة على أوقافه وأوقاف الجمعية الجغرافية التي كانت تزيد على 180 فدانا فحرمته من دخله الآمن الذي كان يوفر تكاليف البحث العلمي.
وضرب مرة ثالثة حين عرضته الدولة لإهمال شديد ولم تلق عليه شعاع ضوء واحدا يعرف المصريين بأهميته وخطورة مهامه.
ثم ضرب أخيرا حين وفرت بيئة لأطفال الشوارع يرتعون فيها من دون رعاية فرقصوا جميعا على أنقاضه المحترقة.