أسلوب (القسم) في القرآن

0 2132

نزل القرآن الكريم للناس كافة، ووقف الناس منه مواقف متباينة ومتخالفة؛ فمنهم مهتد موقن، ومنهم ضال منكر، ومنهم مصدق موافق، ومنهم مكذب مخاصم. وقد استدعت هذه المواقف المتباينة والمتخالفة أن يتوجه القرآن إلى كل منها بما يناسبه من خطاب، وبما يلائمه من أسلوب. وكان من الأساليب التي سلكها القرآن مع الكافرين والجاحدين أسلوب (القسم)، إقامة للحجة عليهم.

تعريف (القسم)

و(القسم) في اللغة: هو اليمين، وفي الشرع: هو ربط النفس بالامتناع عن شيء أو الإقدام عليه، بمعنى معظم عند الحالف حقيقة أو اعتقادا. ويجمع على (أقسام). و(أقسم) إقساما، ومقسما: حلف. يقال: أقسم بالله: حلف به. فهو مقسم.

و(القسم) و(الحلف) و(اليمين) بمعنى واحد. وسمي (الحلف) يمينا؛ لأن العرب كان أحدهم يأخذ بيمين صاحبه عند التحالف. وكان أهل الكفر يقسمون بآبائهم وآلهتهم، فإذا كان الأمر عظيما أقسموا بالله تعالى، قال سبحانه: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} (الأنعام:109).

أنواع (القسم)

قال بعض أهل العلم: (القسم) بالشيء لا يخرج عن وجهين: إما لفضيلة أو لمنفعة؛ قال: فالفضيلة كقوله تعالى: {وطور سينين * وهذا البلد الأمين} (التين:2-3)، فقد أقسم سبحانه -وله أن يقسم بما شاء- بالبلد الأمين، وهو مكة؛ تبيانا لفضلها ومكانتها. والمنفعة نحو قوله سبحانه: {والتين والزيتون} (التين:1)، أقسم سبحانه بهذين المطعومين؛ لبيان منفعتهما وفائدتهما.

وتتببع أسلوب (القسم) في القرآن الكريم، يرشد إلى أنه ورد بحسب اعتبارات ثلاثة:

أولها: باعتبار المقسم به، وهو بهذا الاعتبار ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: قسم بالله عز وجل. وقد أقسم سبحانه بذاته في ثمانية مواضع في القرآن، هي: قوله تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم} (النساء:65)، وقوله عز وجل: {قل إي وربي إنه لحق} (يونس:53)، وقوله سبحانه: {فوربك لنسألنهم أجمعين} (الحجر:92)، وقوله سبحانه: {فوربك لنحشرنهم والشياطين} (مريم:68)، وقوله عز من قائل: {قل بلى وربي لتأتينكم} (سبأ:3)، وقوله تعالى: {فورب السماء والأرض} (الذاريات:23)، وقوله تعالى: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب} (المعارج:40)، وقوله سبحانه: {قل بلى وربي لتبعثن} (التغابن:7).

ثانيهما: قسم بمخلوقاته، وهذا كثير في القرآن.

فتارة يقسم سبحانه بمخلوقاته السماوية، كقوله تعالى: {والنجم إذا هوى} (النجم:1)، وقوله عز وجل: {والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها} (الضحى:1-2). وقوله سبحانه: {والسماء ذات البروج} (البروج:1).

وتارة يقسم بمخلوقاته الأرضية، كقوله سبحانه: {والتين والزيتون * وطور سينين} (التين:1-2)، وقوله سبحانه: {والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها} (الضحى:3-4).

وتارة يقسم سبحانه بنبيه صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } (الحجر:72).

وتارة يقسم سبحانه بالقرآن الكريم، كقوله سبحانه: {يس * والقرآن الحكيم} (يس:1-2)، وقوله تعالى: {ص والقرآن ذي الذكر} (ص:1)، وقوله عز وجل: {ق والقرآن المجيد} (ق:1).

ثانيها: ويقسم (القسم) باعتبار المقسوم عليه إلى أنواع:

منها (القسم) على التوحيد، من ذلك قوله تعالى: {فالتاليات ذكرا * إن إلهكم لواحد} (الصافات:3-4).

ومنها (القسم) على أن القرآن حق، من ذلك قوله سبحانه: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم} (الواقعة:76-77).

ومنها (القسم) على أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، من ذلك قوله سبحانه: {يس * إنك لمن المرسلين} (يس:2-3).

ومنها (القسم) على أن الجزاء حق، من ذلك قوله سبحانه: {والذاريات ذروا } (الذاريات:1)، مع قوله تعالى: {وإن الدين لواقع} (الذاريات:6).

ومنها (القسم) على حال الإنسان، من ذلك قوله سبحانه: {والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى} (الليل:1-2)، مع قوله تعالى: {إن سعيكم لشتى} (الليل:4).

ثالثها: يقسم باعتبار الإظهار والإضمار إلى قسمين: ظاهر ومضمر.

فـ (الظاهر)، وهو ما يذكر فيه (المقسم) به، مثاله قوله سبحانه: {فورب السماء والأرض} (الذاريات:23). ومن أمثلته أيضا قوله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين}، ونحو هذا من الأقسام التي يذكر فيها المقسم به.

و(المضمر)، هو ما يكون (المقسم) به مضمرا ومقدرا، مثاله قوله تعالى: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم} (آل عمران:186)، فـ (اللام) هنا لام (القسم)، دلت على المقسم به، والتقدير (والله لتبلون). ومن أمثلته أيضا قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} (مريم:71)، والتقدير: والله إنكم لواردو النار.

فائدة أسلوب (القسم)

والغرض الأساس من (القسم) التأكيد على الأخبار التي وردت فيها الأقسام. وقد يرد (القسم) في القرآن الكريم بقصد بيان عظمة المقسم به، كـ (القسم) بالله، و(القسم) بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر المفسرون في أثناء تفاسيرهم جملا من فوائد (القسم)، تفيد ما ألمحنا إليه من فائدة (القسم)؛ فالإمام الرازي عند تفسيره لقوله تعالى: {وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم}، يقول: "يعلمه -أي للنبي صلى الله عليه وسلم- (القسم) تأكيدا لما كان يخبر عن البعث"، ويؤيد الزركشي هذه الفائدة من أسلوب (القسم)، فيقول: "(القسم) إنما جيء به لتوكيد المقسم عليه". ويقرر الآلوسي فائدة أخرى من أسلوب (القسم)؛ وذلك أن "(القسم) يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به"، وأن "الإقسام بالشيء إعظام له".

(القسم) وجوابه

الصيغة الأصلية لأسلوب (القسم)، أن يؤتى بالفعل (أقسم) أو (أحلف) متعديا بـ (الباء) إلى المقسم به، ثم يأتي المقسم عليه، وهو المسمى بجواب (القسم)، كقوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها} (الأنعام:109). وعلى هذا، فإن أسلوب (القسم) يتكون من ثلاثة عناصر رئيسة: فعل (القسم)، والمقسم به، وجواب (القسم).
وقد تزاد ألفاظ في (القسم) للمبالغة في التوكيد، من ذلك زيادة لفظ (إي) بمعنى: نعم، كما في قوله تعالى: {قل إي وربي} (يونس:52). وقد ينقص منه للاختصار وللعلم بالمحذوف، فيحذف فعل (القسم)، وحرف الجر، ويكون الجواب مذكورا، كقوله سبحانه: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب:21)، والتقدير: والله لقد كان.
وجواب (القسم) قد يذكر، وقد يحذف للعلم به، أو للدلالة عليه، فمن أمثلة ذكره قوله عز وجل: {والشمس وضحاها} (الشمس:1) إلى قوله تعالى: {قد أفلح من زكاها} (الشمس:9). وقد ذكر الزركشي أن ذكر جواب (القسم) هو الأغلب في القرآن. ومن أمثلة حذفه قوله تعالى: {لا أقسم بيوم القيامة} (القيامة:1)، فجواب (القسم) محذوف، دل عليه قوله سبحانه: {أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه} (القيامة:3)، والتقدير: لتبعثن ولتحاسبن. قال ابن الأثير: "وقد ورد هذا الضرب في القرآن كثيرا".

أفعال تجري مجرى (القسم)

ثمة بعض الأفعال تجري مجرى (القسم)، وهي تدل عليه من سياقها ومعناها، من ذلك قوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس} (آل عمران:187)، فـ (اللام) في قوله تعالى: {لتبيننه} لام (القسم)، والجملة بعدها جواب (القسم)؛ لأن أخذ الميثاق بمعنى (الاستحلاف). وبحسب هذا المنحى حملوا قوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض} (النور:55).

أخيرا، فقد روي عن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى: {فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون} (الذاريات:23)، صاح، وقال: من الذي أغضب الجليل، حتى ألجأه إلى اليمين؟ قالها ثلاثا، ثم مات!

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة