أسلوب (الإتباع) في القرآن

0 1503

للعرب أساليب بليغة للتعبير عن مرادهم، وسنن عديدة للإفصاح عما يدور في حنايا قلوبهم، ومن بين هذه الأساليب ما يسمى بأسلوب (الإتباع). وهو أسلوب يندرج في باب التناسب اللفظي في النظم القرآني.

ويذكر علماء اللغة أن العرب يحملون اللفظ على ما يجاوره، ويغيرون كثيرا من كلامهم عن قوانينه النحوية والصرفية؛ للإتباع والمجاورة. كما جرت عادة النحاة أن يعللوا بالمجاورة كثيرا من الظواهر النحوية.

تعريف الإتباع

ذكر ابن فارس في كتابه (فقه اللغة) أن الإتباع هو أنه "تتبع الكلمة الكلمة على وزنها، أو رويها، إشباعا وتأكيدا"، وعرفه في كتابه (الصاحبي) بقوله: الإتباع "أن يجعل كلام بحذاء كلام، فيؤتى به على وزنه لفظا، وإن كان مختلفين". 

الأساس الذي بني عليه الإتباع

نقل ابن قتيبة عن الفراء وغيره قوله: "العرب إذا ضمت حرفا إلى حرف، فربما أجروه على بنيته، ولو أفرد، لتركوه على جهته الأولى"، وقصده بـ (الحرف) هنا الكلمة. وقال أبو علي الفارسي -وهو من أئمة اللغة-: "قد تحدث أشياء توجب تقديم غير الأصل على الأصل؛ طلبا للتشاكل، وما يوجب الموافقة".

وقال أبو حيان في "تفسيره": "قد يسوغ في الكلمة مع الاجتماع مع ما يقابلها ما لا يسوغ فيها لو انفردت"، وقال أيضا: "وقد غيروا كثيرا من كلامهم؛ للازدواج"، ويعني بـ (الازدواج) هنا: الإتباع. وذكر بعض أهل اللغة أن "العرب تراعي مجاورة الألفاظ، فتحمل اللفظ على مجاوره؛ لمجرد المضارعة -المشابهة- اللفظية، وإن اختلف المعنى". وروي أن بعض العرب سئل عن ذلك، فقال: هو شيء نتدبر به كلامنا. ومحصل القول هنا: إن العرب تغير كثيرا من كلامها عن قوانينه النحوية والصرفية؛ للإتباع والمزواجة.

أمثلة من كلام العرب على هذا الأسلوب

من الأمثلة التي يذكرها اللغويون لبيان هذا الأسلوب، قولهم: "إني لآتيه بالعشايا والغدايا"، فجمعوا (الغداة) على (غدايا)، والأصل أن تجمع على (غدوات)، لكن خالفوا الأصل؛ لانضمامها إلى العشايا.

ومن ذلك أيضا قول الشاعر:

هتاك أبوبة ولاج أخبية      يخلط بالجد منه البر واللينا

فجمع (الباب) على (أبوبة)، وحقه أن يجمع على (أبواب)، لكن خالف الأصل؛ لإتباعه لـ (أخبية)، ولو أفرد لم يجز.

ومن هذا الباب قولهم أيضا: حياك الله وبياك. فـ (حياك) أي: ملكك، و(بياك) أي: أضحكك. وقولهم أيضا: نعوذ بالله من الترح بعد الفرح. و(الترح): الحزن. وقولهم: فلان لا في العير ولا في النفير. (العير): قافلة التجارة، و(النفير) الجيش المحارب. وقولهم: أعوذ بك من السامة واللامة، و(السامة) مؤنث (السام): وهو كل ذي سم، و(اللامة): كل ما يخاف من فزع، أو شر، أو مس، أو عين مصيبة بسوء. وقولهم: ساغب لاغب، و(الساغب): الجائع، و(اللاغب)، المتعب. وقولهم: خراب يباب، (اليباب): الخراب والخالي الذي لا شيء فيه. 

المؤلفات في هذا الباب

أقدم من ألف في هذا الباب فيما وصل إلينا ابن فارس، حيث ألف كتابا برأسه سماه "الإتباع والمزاوجة"، كما ضمن كتابه "فقه اللغة" بابا حول هذا الأسلوب، وكذلك فعل في كتابه (الصاحبي). وممن ألف في الباب أيضا الإمام السيوطي ، فقد ألف كتابا سماه "الإلماع في الإتباع"، وتحدث أيضا في كتابه "المزهر في علوم اللغة" عن هذا الأسلوب. إضافة إلى هذا، فإن أكثر من ألف في فقه اللغة، قد تعرض لهذا الأسلوب بالتعريف والتمثيل، كـ ابن قتيبة في كتابه "أدب الكاتب"، وابن جني في كتابه "الخصائص"، وأبي منصور الثعالبي في كتابه "فقه اللغة وأسرار العربية". 

كما أن المفسرين الذين لهم اهتمامات لغوية، كـ أبي حيان والآلوسي وغيرهما، تعرضوا لهذا الأسلوب، ووجهوا كثيرا من الألفاظ التي جاءت خارجة عن القياس النحوي والصرفي بناء عليه. كقول بعضهم: "وهذا من الإتباع".

ويشار هنا إلى أهل اللغة قد يطلقون على أسلوب الإتباع أسماء أخرى غير هذا الاسم، كاسم (المجاورة)، و(المحاذاة)، و(الازدواج). 

أمثلة قرآنية على هذا الأسلوب

وقع أسلوب الإتباع والمزواجة في القرآن الكريم، ووردت فيه ألفاظ وتراكيب خارجة عن القياس النحوي والصرفي الذي وضعه النحاة. وقد ذكر السيوطي في "المزهر"، أن الإمام السبكي اعتمد على ذلك في مناقشة الذين اشترطوا في فصاحة الكلمة عدم مخالفة القياس، واحتج عليهم بما ورد في القرآن من ذلك. 

وصور الإتباع في القرآن متنوعة، وتتبع ألفاظ القرآن يرشد إلى أن القرآن يغير أحيانا اللفظ عن بنيته النحوية أو الصرفية. فيكون التغيير أحيانا في المصادر، وأحيانا أخرى في الصفات، وتارة يكون في الأفعال، وقد يحدث التغيير بتنوين الكلمة التي حقها عدم التنوين؛ لكونها ممنوعة من الصرف، وقد يكون التغيير بزيادة حرف أو حذفه، وقد يختار بعض القراء إحدى القراءتين الواردتين، كل ذلك مراعاة للمجاورة، ووفقا لأسلوب الإتباع. وفيما يلي أمثلة على هذه الصور: 

فمن الأمثلة التي غيرت فيها بنية المصدر قوله تعالى: {وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} (الأنبياء:73). الأصل: وإقامة الصلاة، لكن أضاف المصدر، وحذف الهاء. ونحو ذلك قوله سبحانه: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة} (النور:37)، قال أبو حيان في "تفسيره": "وحسن ذلك هنا - أي حذف التاء من المصدر - أنه قابل {وإيتاء}، وهو بغير تاء، فتقع الموازنة بين قوله، {وإقام الصلاة} {وإيتاء الزكاة}". 

ومن الأمثلة التي غيرت فيها بنية الفعل قوله عز وجل: {أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده} (العنكبوت:19)، قرأ جمهور القراء {يبدئ} مضارع (أبدأ)، وقرأ أبو عمرو {يبدأ}، قال بعض أهل العلم: قد يكون الشيء غير فصيح، فيلحقه أمر فيجعله فصيحا، كقوله تعالى: {أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده}، إذ الفصيح: بدأ يبدأ، بل لا يكاد يسمع أبدا الرباعي، قال تعالى: {كما بدأكم تعودون} (الأعراف:29)، لكن فصح ذلك {يبدئ} بما حسنه من التناسب مع قوله: {يعيده}. قال ابن عاشور في هذا الصدد: واعلم أن هذين الفعلين: (يبدئ) و(يعيد) وما تصرف منهما مما جرى استعمالهما متزاوجين بمنزلة الإتباع، كقوله تعالى: {وما يبدئ الباطل وما يعيد} (سبأ:49). 

ومن الأمثلة التي غيرت فيها بنية الصفة، قوله سبحانه: {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} (النساء:4)، فقوله سبحانه: {هنيئا مريئا} من هنؤ الطعام ومرؤ، إذا كان سائغا، لا تنغيص فيه، يقال: هنأني الطعام ومرأني، فإذا أفرد الوصف {مريئا}، قيل: أمرأني، رباعيا. واستعمل في الآية ثلاثيا على الإتباع.

ومن الأمثلة التي غيرت فيها بنية الكلمة بحذف حرف منها قوله تعالى: {قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون} (الأعراف:195)، فقوله سبحانه: {كيدون}، قرأها جمهور القراء بحذف الياء، اجتزاء بالكسرة عنها. قال المفسرون: وحسن ذلك في هذه الآية لمجاورتها لرأس الآية {تنظرون}. 

ومن الأمثلة التي غيرت فيها بنية الكلمة بزيادة حرف فيها قوله تعالى: {ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم} (النساء:90)، فـ (اللام) في قوله سبحانه: {لسلطهم} جواب (لو)، و(اللام) في قوله تعالى: {فلقاتلوكم} جاءت إتباعا لتلك اللام الأولى، وإلا فالمعنى: لسلطهم عليكم فقاتلوكم. 

وقريب من هذا قوله تعالى: {لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين} (النمل:21)، قال الزركشي ما حاصله: (اللام) في قوله تعالى: {لأعذبنه} و{لأذبحنه } لاما قسم، أما اللام في قوله: {أو ليأتيني} فليست لام قسم؛ لأنه عذر للهدهد، فلم يكن ليقسم على الهدهد أن يأتي بعذر، لكنه لما جاء به على إثر ما يجوز فيه القسم أجراه مجراه.

ومن الأمثلة التي اختار فيها القراء قراءة على غيرها، ووجه هذا الاختيار على أنه أوفق لأسلوب الإتباع، قوله تعالى: {إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا} (الإنسان:4)، فقوله سبحانه: {سلاسلا} حقه أن لا ينون؛ لأنه ممنوع من الصرف، وقد قرأه كذلك بعض القراء. وقرأه آخرون منونا على الإتباع، فقالوا: لما كان بجواره جمع ينصرف (أغلالا)، أتبع الأول الثاني. وقد أشار ابن زنجلة إلى هذا، واحتج به لمن قرأ اللفظ بالتنوين. 

ومن هذا القبيل قوله عز وجل: {وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا} (نوح:23)، فقد قرأ الأعمش وغيره: {يغوث ويعوق} بالتنوين (يغوثا) و(يعوقا)، قال الزمخشري في توجيه ذلك: "لعله قصد الازدواج فصرفهما، لمصادفته أخواتهما منصرفات، ودا وسواعا ونسرا، كما قرئ: {وضحاها} بالإمالة؛ لوقوعه مع الممالات للازدواج". وقال أبو حيان: "تخريجه على أحد الوجهين، أحدهما: أنه جاء على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف عند عامة العرب...والثاني: أنه صرف لمناسبة ما قبله وما بعده من المنون".

وقد خالف بعض أئمة القراءات أصول قراءتهم؛ حفاظا على حسن الجوار، ومراعاة لأسلوب الإتباع؛ من ذلك أن ورشا ترك تسهيل الهمزة في قوله تعالى: {فأذن مؤذن بينهم} (الأعراف:44)، فحقق الهمزة من قوله: {مؤذن} مع أن أصله تسهيلها أينما جاءت في القرآن؛ لمجاورتها لقوله سبحانه: {فأذن}. 

ومن هذا القبيل، أن من أصول قراءة أبي عمرو قراءة {ينزل} بتخفيف الزاي، وقد خالف أصله هذا في قراءة قوله تعالى: {قل إن الله قادر على أن ينزل آية} (الأنعام:37)، فقرأها بالتشديد، فلما سئل: لم شددت هذا اللفظ هنا، وأنت تخفف {ينزل} في كل القرآن؟ فقال: لقربه من قوله تعالى: {وقالوا لولا نزل عليه آية} (الأنعام:37).

وقرأ جمهور القراء {خطوات} في مواضعه كافة في القرآن، بضم الخاء وسكون الطاء على أصل جمع جمعا سالما، وقرأه ابن عامر، وقنبل عن ابن كثير، وحفص عن عاصم بضم الخاء والطاء على الإتباع.

هذا، ومن المهم التنبه هنا إلى أن قولهم: إن اللفظ القرآني خالف القياس اللغوي هو من باب التوسع في التعبير، وليس المراد منه المخالفة الحقيقة؛ وذلك أن التماس هذا الأسلوب في التعبير هو أيضا أصل من أصول كلام العرب، يحرصون عليه إذا عرض لهم، ويغيرون من أجله الكلام عن قوانينه، فيحملون اللفظ على ما يجاوره؛ لما في ذلك من إظهار القدرة على التصرف في الكلام، ولما في ذلك من إرضاء لحاسة الذوق والجمال. وقد كان الخروج عن الأصل في اللغة، وركوب الضرورة من علامة الفحولة عند الشعراء، كما يقول المحققون. وإذا كان هذا من علامات الفصاحة وقوة البيان عند أهل اللسان، فجدير بنا أن نجد منه في القرآن ما يدل على علو مكانته في الفصاحة. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة