أثر الهوى في تأويل أحكام الشريعة

2 1702

الحمد لله حمد الشاكرين، وصلواته على سيد المرسلين، محمد النبي الأمي وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
إن الله سبحانه وتعالى قد بعث الأنبياء بشريعته ليكونوا أدلاء إلى الخير والصواب، فمن سلك غير سبيلهم فقد ضل عن الصراط السوي الذي ارتضاه الله {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}[النساء: 115]، ذلك لأن الدين منهج الله، ولا يطبق إلى على وفق ما أراده الله تعالى، ليس للعقل اعتراض عليه ولا استدراك عليه بنزعة الهوى أو حجة التعديل الموافق للمصلحة أو العقل أو العصر أو غير ذلك.
فاتباع الهوى في مقابلة الشرع مذموم شرعا وعقلا وذلك لمحظورين اثنين:
الأول: أن في ذلك إعراضا وميلا عن الشرع، وتمسكا بغير المشروع، ولو كان شيئا دون الهوى لهان ولكنه تمسك بالهوى الذي هو مصب كل فتنة، ورأس كل مصيبة، وهذا يوصل إلى الشرك والعياذ بالله.

الثاني: أن فيه اعتراضا على الشرع واستدراكا وزيادة عليه، وقد أتم الله نعمته وأكمل دينه فلا مجال لهوى النفس في شيء قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}[المائدة: 3]، وهذا سبيل البدعة والفرقة.
ولهذا قال ابن الجوزي رحمه الله: "فمطلق الهوى يدعو إلى اللذة الحاضرة من غير فكر في عاقبة، ويحث على نيل الشهوات عاجلا وإن كانت سببا للألم والأذى في العاجل ومنع لذات الآجل، فأما العاقل فإنه ينهى نفسه عن لذة تعقب ألما، وشهوة تورث ندما وكفى بهذا القدر مدحا للعقل وذما للهوى، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما ذكر الله عز وجل الهوى في موضع من كتابه إلا ذمه، وقال الشعبي: إنما سمي هوى لأنه يهوي بصاحبه".(ذم الهوى لابن الجوزي: (ص 18).

ولا شك أن اتباع الهوى ذريعة إلى الضلال والانحراف عن الدين، حيث وقد ذمه الله تعالى في كثير من الآيات في كتابه الكريم: فذم عالم بني إسرائيل بقوله: {واتبع هواه فمثله كمثل الكلب}[الأعراف: 176]، وقال: {واتبع هواه وكان أمره فرطا}[الكهف: 28]. أي وكان أمره ظلما واعتداء(التحرير والتنوير: (8/364).، فبهذا يكون سباقا في الشر، غافلا عن دواعي الخير، وقد لا يستشعر ذلك فكأنما هواه أعماه وأصمه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يستحضر ما لله ورسوله في الأمر ولا يطلبه، ولا يرضى لرضا الله ورسوله، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين أن الذي يرضى له ويغضب له أنه هو السنة، وهو الحق، وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء، ليعظم هو ويثنى عليه، أو لغرض من الدنيا لم يكن لله(منهاج السنة النبوية: (5/256).

إن الهوى آفة تعتري المسلم فتفسد عليه معتقده ودينه بميلانه إلى ما تستلذه نفسه من الشهوات، وينبسط إليه من أمور الدنيا ما يخالف شرع الله، ولهذا يقول الله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء}[الأنعام: 159]، قال بعض المفسرين: صاروا فرقا لاتباع أهوائهم، وبمفارقة الدين تشتتت أهواؤهم فافترقوا وهو قوله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا} ثم برأ الله نبيه بقوله: {لست منهم في شيء} وهم أصحاب البدع والكلام فيما لم يأذن الله فيه ولا رسوله (الموافقات للشاطبي: (4/111)..

وقال علي رضي الله عنه: إن أخوف ما أتخوف عليكم اثنتان: طول الأمل، واتباع الهوى، فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة، والآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل(فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل: (2/362).

نعم عباد الله، إن الهوى يصد عن الحق، ويعمي البصيرة ويغوي المرء حتى لا يرى عمله إلا خيرا وإن كان مخالفا للهدى، وإن كان مجانبا للصواب، ويؤيد هذا ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث منجيات، وثلاث مهلكات، فأما المنجيات: فتقوى الله في السر والعلانية، والقول بالحق في الرضا والسخط، والقصد في الغنى والفقر، وأما المهلكات: فهوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه، وهي أشدهن) (شعب الإيمان للبيهقي: (15/300) وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم: (3039) ..
وهذا منه صلى الله عليه وسلم تصريح بنجاة العبد أوهلاكه في تلك الأمور، وقد قدم الهوى المتبع في أول المهلكات؛ لما له من الخطر العظيم، والله عز وجل قد بين أن اتباع الهوى سبب في الهوي في الشهوات والانغماس في وحل الضلال وترك الحق، كما قال جل شأنه في أولئك المشركين الذين أعرضوا عن دين الله الذي جاء به سائر الأنبياء: {ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين * فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون* قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين * فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين}[القصص: 47- 50].

وبهذا البيان من الله يتضح مدى انحراف الناس عن الحق ومجانبتهم إياه، وأنهم لو أصابتهم مصيبة برروا لأنفسهم بأنه لم يرسل إليهم رسول، ولو أرسل لآمنوا، فلما جاءهم الحق من عند الله والقرآن العظيم اعترضوا واشترطوا أن يكون كما كان الذي مع موسى! أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل؟! وهاهم يقولون في القرآن والتوراة هما سحران تعاونا في إضلال الناس!

سبحان الله! فثبت بهذا أن القوم يريدون إبطال الحق بما ليس ببرهان، وينقضونه بما لا ينقض، ويقولون الأقوال المتناقضة المختلفة، وهذا شأن كل كافر. ولهذا صرح أنهم كفروا بالكتابين والرسولين، ولكن هل كفرهم بهما كان طلبا للحق، واتباعا لأمر عندهم خير منهما، أم مجرد هوى؟ قال تعالى ملزما لهم بذلك: {فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما} أي: من التوراة والقرآن {أتبعه إن كنتم صادقين} ولا سبيل لهم ولا لغيرهم أن يأتوا بمثلهما، فإنه ما طرق العالم منذ خلقه الله، مثل هذين الكتابين، علما وهدى وبيانا، ورحمة للخلق.

وهذا من كمال الإنصاف من الداعي أن قال: أنا مقصودي الحق والهدى والرشد، وقد جئتكم بهذا الكتاب المشتمل على ذلك، الموافق لكتاب موسى، فيجب علينا جميعا الإذعان لهما واتباعهما، من حيث كونهما هدى وحقا، فإن جئتموني بكتاب من عند الله هو أهدى منهما اتبعته، وإلا فلا أترك هدى وحقا قد علمته لغير هدى وحق {فإن لم يستجيبوا لك} فلم يأتوا بكتاب أهدى منهما {فاعلم أنما يتبعون أهواءهم} أي: فاعلم أن تركهم اتباعك، ليسوا ذاهبين إلى حق يعرفونه، ولا إلى هدى، وإنما ذلك مجرد اتباع لأهوائهم. {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} فهذا من أضل الناس، حيث عرض عليه الهدى، والصراط المستقيم، الموصل إلى الله وإلى دار كرامته، فلم يلتفت إليه ولم يقبل عليه، ودعاه هواه إلى سلوك الطرق الموصلة إلى الهلاك والشقاء، فاتبعه وترك الهدى، فهل أحد أضل ممن هذا وصفه؟ ولكن ظلمه وعدوانه، وعدم محبته للحق، هو الذي أوجب له أن يبقى على ضلاله ولا يهديه الله، فلهذا قال: {إن الله لا يهدي القوم الظالمين} (تفسير السعدي: (1/617).

ولا نزاع في أن من اتبع الهوى صار مخالفا للشرع؛ لأن العقل إذا لم يكن متبعا للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة، وأنتم تعلمون ما في اتباع الهوى وأنه ضلال مبين، ألا ترون قول الله تعالى: {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب}[سورة ص: 26]. فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده وهو الحق والهوى وعزل العقل مجردا إذ لا يمكن في العادة إلا ذلك، وقال: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه}[الكهف: 28]. فجعل الأمر محصورا بين أمرين: اتباع الذكر، واتباع الهوى، وقال: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله}[القصص: 50]. وهي مثل ما قبلها، وتأملوا هذه الآية فإنها صريحة في أن من لم يتبع هدى الله في هوى نفسه، فلا أحد أضل منه، وهذا شأن المبتدع؛ فإنه اتبع هواه بغير هدى من الله، وهدى الله هو القرآن وما بينته الشريعة وبينته الآية أن اتباع الهوى على ضربين:

أحدهما: أن يكون تابعا للأمر والنهي فليس بمذموم ولا صاحبه بضال، كيف وقد قدم الهدى فاستنار به في طريق هواه، وهو شأن المؤمن التقي.
والآخر: أن يكون هواه هو المقدم بالقصد الأول، كان الأمر والنهي تابعين بالنسبة إليه أو غير تابعين وهو المذموم، وهذا هو اتباع الهوى في التشريع، إذ حقيقته افتراء على الله، وقد قال جل شأنه: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله}(23) سورة الجاثية. أي لا يهديه دون الله شيء وذلك بالشرع لا بغيره وهو الهدى الاعتصام للشاطبي: (1/51 - 52) بتصرف.

وأختم بكلام لشيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله حيث قال: وأضل الضلال: اتباع الظن والهوى كما قال الله تعالى في حق من ذمهم: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى}[النجم: 23]، وقال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}[النجم: 1-4] فنزهه عن الضلال والغواية اللذين هما الجهل والظلم، فالضال هو الذي لا يعلم الحق، والغاوي الذي يتبع هواه. وأخبر أنه ما ينطق عن هوى النفس، بل هو وحي أوحاه الله إليه فوصفه بالعلم ونزهه عن الهوى.( مجموع فتاوى ابن تيمية: (3/384).

أيها الحريصون على اتباع الهدى، إذا كان الأمر بهذه الحال من أنه إما شرع وإما هوى، ومن اتبع الهوى فلا أضل منه، علم قطعا أن العقل ليس له مجال في:
تشريع أحكام تخالف ما شرع الله، ولا بوضع قانون مقابل لحكم الله، ولا قبول لتنازل في معلوم من الدين بحجة مصلحة، ولا زيادة في أمر من أمور العبادة ، أو تحريف لكتاب الله، أو تغيير لحدود الله، أو استدراك على شرع الله، أو تفسير كتاب الله وفق الهوى، أو تطبيق للشريعة بما يوافق انحرافات العصر، أو تهوين شأن المبادئ الإسلامية وتقليلها وتسهيل أمرها.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا ابتاعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين
________________________________________
موقع إمام المسجد ( بتصرف يسير ).

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة