- اسم الكاتب:جمال سلطان
- التصنيف:الإعلام
الربيع العربي الذي ينتشر الآن بقوة من المحيط إلى الخليج ليغير وعي الشعوب بأولويات الأمة، ويغير موازين القوى السياسية والإعلامية على امتداد ملايين البشر بعد أن غير موازين القوى في نظم الحكم نفسها؛ فأزال دولا وحكاما وأقام آخرين، وما زال الفضاء مفتوحا على مزيد من التغيير.
هذا الربيع كان من أبرز أسلحته وما يزال الإعلام والتغطية المستمرة، التي تنقل وقائع الانتفاضات العربية على الهواء مباشرة وعلى مدار الساعة إلى العالم كله؛ ليكون رقيبا وشهيدا ومسؤولا، ولنا أن نتخيل أن لو كانت الثورات العربية الأخيرة محرومة من أي تغطية إعلامية مهمة، هل تراها كانت ستنجح في إحراج النظم المستبدة، أو أن تحرك الضمير العالمي لنصرة هؤلاء المستضعفين.
هذا الذي حدث لعله يكون أبلغ دليل نقدمه لشركائنا في الدعوة إلى الله على أهمية وخطورة الإعلام، وأنه ليس مجرد واجهة للجهود الدعوية أو السياسية؛ وإنما هو أصل لمشروعات التغيير والدعوة ونصرة المستضعفين.
لم يكن الإعلام مدرجا على سلم الأولويات لدى حركة الإحياء الديني الحديثة في العالم العربي والإسلامي، ولم يكن هناك أي وعي حقيقي جاد بقيمة الإعلام وخطورته في تشكيل الحياة في المجتمع الجديد، ومنذ دخول الصحافة في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي لم تظهر أي بصمة تذكر للفعاليات الدينية فيها؛ حتى إنه ليصح القول بأنه من الصعب الإشارة إلى عمل صحفي إسلامي مهم كان له حضوره الكبير في الصحافة العربية؛ رغم أن معظم التيارات السياسية والفكرية الأخرى نشطت في هذا المجال وحققت حضورا كبيرا واستفادت كثيرا من قيمة وتأثير الإعلام، وهو ما حقق لها حضورا اجتماعيا وسياسيا أكبر بكثير من حجمها الفعلي والعملي في ساحة الواقع السياسي والاجتماعي.
ربما كان الاستثناء الوحيد الذي يمكن ذكره هو صحيفة (العروة الوثقى) للشيخين (جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده)، وهي الرسالة التي صدرت في فرنسا أيام النفي، وكان لها حضورها الكبير في البلدان العربية المختلفة: في الشام ومصر وتونس والجزائر والمغرب وغيرها. إلا أنه الاستثناء الذي يثبت القاعدة كما يقولون، إضافة إلى أنه من الصعب أن ندرج العروة الوثقى في مقام العمل الإعلامي حرفة ومهنة؛ وإنما كانت أشبه بالمنشورات الفكرية التي تستنهض الهمم وتحرك الخواطر، ومع ذلك لم يبن عليها أحد من بعدهم سوى محاولات فكرية بحتة قام بها السيد محمد رشيد رضا في تجربة مجلة (المنار)، وهي عمل فكري علمي يصعب نسبته إلى الصحافة.
والحقيقة أن هذا الميل إلى الصحافة الفكرية - إن صح التعبير - أصبح ظاهرة ملاصقة للتجربة الإسلامية في التعامل مع الإعلام الجديد، فكانت معظم الجهود الإسلامية تتمثل في مجلات فكرية، وحتى إذا اهتم بإصدار صحيفة فإنه يصدرها مجلة فكرية تعتمد على المقال والرأي.
لقد كان العقل الإسلامي محصورا في إدراكه للإعلام على أنه مقالة وفكرة، دون النظر إلى الأبعاد الأخرى المتنوعة للعمل الصحفي والإعلامي خبرا وتقريرا وتحليلا وحوارا وتحقيقا وصورة وفنونا وغير ذلك، فجاءت معظم تجارب الإسلاميين الإعلامية عبارة عن مجلات فكرية.
أما الصحف فكانت كلها - تقريبا - من نصيب التيارات اليسارية أو القومية أو الليبرالية، ولم يبدأ الإسلاميون في الاهتمام بالإعلام حرفة ومهنة وبالصحافة إلا في ربع القـرن الأخيـر - تقريبا - وحـده، وأذكـر أن أبنـاء جيلي ومن سبقوهم في مصر - باعتبارها من البلاد العربية الرائدة في فن الصحافة - كانوا ينظرون إلى الصحفيين نظرة مستريبة ومستوحشة، وتعتبرهم أقرب إلى الماسون والجمعيات المشبوهة وأصحاب العلاقات الغامضة، فلما اقتحمنا المضمار فعليا وجدنا أن معظم تصوراتنا واستراباتنا كانت سرابا وخيالا لا صلة لها بالواقع، وأدركنا أنها حرفة وصنعة لها خصوصيات إنسانية وسياسية واجتماعية عالية الأثر، فلما اندفع الإسلاميون فيها حققوا نجاحات كبيرة يمكن الإشارة إلى بعضها في هذا السياق، وعندما ينظر الناظر إلى نقابة الصحافيين المصريين - مثلا - فسيلاحظ أن متوسط أعمار أعضائها من الإسلاميين يتراوح بين ثلاثين وأربعين عاما؛ بمعنى أنهم الجيل الجديد، ويندر - تماما - أن تجد من هم فوق هذا السن، بينما يجد الأجيال الأقدم وشيوخ المهنة من تيارات فكرية وسياسية أخرى، وهذا مؤشر واضح إلى غياب الإسلاميين عن هذا القطاع الخطير طوال تاريخهم حتى السنوات الأخيرة فقط.
بدون شك كانت هناك أسباب تاريخية ونفسية وذاتية لغياب الإدراك لدى الإسلاميين بخطورة الإعلام وقيمته في المجتمع الجديد، لعل أهم هذه الأسباب هو طبيعة الحضور الإسلامي في المجتمع، الذي يعتمد على التماس مباشرة مع المجتمع وليس الحديث إليه عبر ستار الأوراق والصور، كانت آليات التواصل التاريخية لدى الإسلاميين مرتبطة بالمسجد وخطب الجمعة ودروس العلم والمواسم المختلفة في الأعياد والمناسبات الاجتماعية من زواج وجنائز وغيرها، وكلها كانت مساحات ضخمة من التأثير والتواصل مع المجتمع كانت تشبع المهتمين بالشأن الإسلامي والدعاة، وتجعلهم ينظرون بشيء من التعالي أو عدم الاكتراث بالبدائل الحديثة المتمثلة في الصحافة والإعلام الجديد كالتلفاز، ويشعرون بالغنى عنها، والغريب أن هذه المعاني نفسها هي التي جعلت التيارات السياسية الأخرى تنشط في مجال الإعلام وتبحر به بديلا جديدا عن تلك المساحات الاجتماعية المباشرة التي يصر عليها الإسلاميون ويلتحمون فيها بالمجتمع. وعلى سبيل المثال فقد كانت التيارات اليسارية أكثر اهتماما بالإعلام وخبراته والتفوق فيه؛ لأنهم حرموا من القدرة على التواصل مع المجتمع من خلال المساجد والدروس الدينية والمناسبات الدينية والاجتماعية المختلفة التي شكلت مجال تمدد الخطاب الإسلامي وتواصله مع المجتمع.
ولم يبدأ الإعلام الإسلامي في الظهور والحضور في المشهد الإعلامي إلا بعد أن بدأت المساحات الحميمية المباشرة التي يتمتع بها الإسلاميون في الانحسار - سواء من خلال المساجد أو المناسبات الدينية - حيث أصبحت خاضعة بصورة أو أخرى للخطاب الرسمي والهيمنة الرسمية، فبدأ الإسلاميون رحلة البحث عن المنابر البديلة، فكان الاتجاه بقوة إلى المجال الصحفي ومن بعده المجال التلفزيوني.
لقد مثلت التطورات التقنية والفنية المذهلة في مجال الإعلام ميدانا خصبا لتميز الصحوة الإعلامية بين الإسلاميين إن صح التعبير، وبشكل خاص الشبكة المعلوماتية العنكبوتية الكبيرة المعروفة بشبكة الإنترنت، وأيضا ظهور البث الفضائي للقنوات التلفزيونية والإذاعية.
كان الإنترنت لحظة تاريخية فارقة في خريطة الإعلام والمعلوماتية في العالم كله، لسهولة استخدامه، وقلة تكلفة استخدامه؛ خاصة في مجال الصحافة والإعلام؛ لأنه يغنيك عن رحلة البحث عن تكاليف الطبع والتسويق والشحن والنقل وخلافه، كما أنه يغنيك بدرجة معقولة عن تكاليف البنية الأساسية للعمل من أماكن ومكاتب وعمالة ضخمة وغير ذلك.
الأمر الآخر الذي حققه ظهور الإنترنت - وهو لا يقل خطورة وأهمية عما سبق - هو تجاوزه الكبير نسبيا لحاجز الرقابة والتصاريح الرسمية المعقدة خاصة في العالم العربي من أجل استصدار رخصة صحيفة أو مجلة أو إذاعة؛ الآن يمكنك إذا قررت في الصباح أمرا أن تحول قرارك إلى واقع فعلي في المساء وترسل صوتك أو رأيك في اليوم نفسه إلى ملايين القراء أو المستمعين في أنحاء العالم كله، هذه نقله مدهشة ورائعة، والأكثر دهشة فيها على المستوى العربي أن أكثر الفئات استفادة منها كانوا هم آخر الفئات دخولا إلى فضاء الإعلام (أعني الإسلاميين)؛ فتفوقوا فيه ونجحوا وأصبح حضورهم هو الأهم والأقوى في ساحة الإعلام الجديد عبر الإنترنت وربما عبر الفضائيات كما سيأتي، وهذا الحضور القوي في الإنترنت - على سبيل المثال - كانت له أسبابه المنطقية والسياسية؛ وذلك أن الإسلاميين عندما دخلوا متأخرين إلى ساحة الإعلام، كانت القنوات أو المنابر التقليدية في الإعلام العربي قد تم إكمال حلقاتها واحتلالها وانغلاقها على فئات بعينها أو تمت مصادرتها لصالح الحكومات والنظم السياسية. فحتى الصحف الرسمية أو القومية أو الكبيرة المستقلة كانت الهيمنة فيها لأصحاب تيارات فكرية وسياسية قديمة (يسارية أو ليبرالية أو قومية)، والمساحات المتبقية فيها محدودة للغاية، ولذلك وجد الوافدون الجدد على ساحة الإعلام - وهم الإسلاميون - ضالتهم في الإنترنت، في الوقت الذي لم يشعر الآخرون بحاجة ماسة أو ملحة إلى استخدام الإنترنت؛ لأن لديهم البدائل القديمة من الصحف والمجلات والفضاء الإعلامي الرسمي كله، ولذلك كانت الملاحظة واضحة بشكل كبير في أن الإنترنت العربي هو إسلامي الهوى والفكر واللغة.
صحيح أن معظم الصحف صممت لها مواقعها على الشبكة العنكبوتية، وثمة مواقع فكرية وسياسية أخرى، لكنها تبقى نسبة محدودة للغاية بالمقارنة بالمواقع التي تعبر عن الخطاب الإسلامي سياسيا ودينيا وفكريا وقيميا وحضاريا.
على الجانب الآخر وبعد سنوات قلائل من ظهور البث الفضائي، وانتشار القنوات التلفزيونية التي تتوسل هذه النقلة الجديدة والخطيرة، وإحساس فعاليات فكرية واجتماعية وسياسية كثيرة في العالم العربي بخطورة هذا الباب وسعة تأثيره: حدث أن اتجهت فعاليات إسلامية كثيرة إلى البث الفضائي من أجل تحقيق حضور مؤثر فيه وحجز مساحة كبيرة لها في العقل والعين والخاطر العربي الجديد، وبدأت المحاولات بظهور قناة اقرأ الفضائية، ثم بعدها ظهرت قناة المجد ثم تقاطرت القنوات؛ حيث أصبحت المجد شبكة من القنوات الفضائية بعضها متخصص في الطفل أو الأسرة أو العلوم الشرعية، وظهرت قناة الرسالة وقناة الفجر وقناة هدى وانفتح الباب واسعا، ثم ظهر سيل من القنوات الفضائية العراقية في أعقاب التحولات الأخيرة التي انتهى فيها حكم البعث، وإن كانت القنوات العراقية تتسم بروح الفوضى والطائفية التي يتسم بها الواقع القائم الذي عمق من فوضاه الاحتلال الأمريكي وخطط تفكيك العراق وشرذمته.
إن المشكلة الرئيسية التي تمثل تحديا للإعلام الإسلامي حتى الآن، تتمثل في أن وعي القائمين عليه ما زال مشدودا إلى فكرة الإعلام الديني أو التبشيري أو الدعوي بمفهومه المباشر والضيق، ونادرا ما يحدث أن يتجاوز الإعلام الإسلامي الآن تلك الدوائر الضيقة إلى فضاء المجتمع وتعقيداته السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية، ناهيك عن الأنشطة المتنوعة التي تمثل حساسية زائدة عند الإسلاميين، رغم حضورها الإعلامي الكبير عند الجمهور الواسع في البلدان المختلفة، مثل قطاع الفن وقطاع الرياضة وقطاع ملفات الجريمة والحوادث وما شابه ذلك، وتبدو الصورة كما لو كان الإسلاميون حاولوا نقل المسجد من مساحة الأرض إلى أثير الفضائيات لا أكثر، وهو ما أتاح الفرصة للإعلام المشبوه أو غير الملتزم بالرؤية الإسلامية أو حتى المعادي لها، أن يتمدد ويكتسب حضورا جماهيريا واسعا ومتابعة ضخمة؛ لأنه أكثر جرأة وجسارة على اقتحام هموم المجتمع المباشرة والحميمية، كما أننا لا يمكن أن نبرئ الإعلام الإسلامي في مجمله من خذلان طاقات التغيير في الأمة عندما كان يهرب من مواجهة استحقاقات سياسية أو يتعامل مع أي ملف سياسي بهلع زائد، دون أن يفكر أو يبذل الجهد الكافي للالتفاف على الحصار الأمني والتضييق الرسمي للتواصل مع الجمهور العريض واكتساب مصداقية سياسية أيضا.
وبدون شك، فإن الثورات العربية الأخيرة كسرت كثيرا من العقبات، وأزالت كثيرا من العوائق أمام تمدد الإعلام الإسلامي، وأصبحت المسؤولية مضاعفة الآن على الإسلاميين؛ فلا حجة لهم ولا عذر إن لم يقدموا رسالة إعلامية حديثة ناضجة جذابة قادرة على اجتذاب ملايين المواطنيين بمختلف اهتماماتهم وتطلعاتهم.
وأتصور أن التحدي الأكبر للإسلاميين في مجال الإعلام سيكون في محورين اثنين:
الأول: مدى قدرتهم على الاستفادة القصوى من الحالة الراهنة المنفتحة الرحبة لتكوين عناصر فنية محترفة بأسرع وقت، وتحريك برامج تدريب على مستوى عال يستعان فيها بكفاءات وقدرات مرموقة حتى من غير الإسلاميين، مع تحول المتدربين إلى الممارسة المباشرة في صحف ومجلات وفضائيات وإذاعات.
التحدي الآخر: هو القدرة على تجاوز الولاءات المحدودة داخل الحزب أو الجماعة، لصناعة إعلام قادر وجذاب واحترافي يعتمد على الكفاءة وليس على الولاء، وليكن الولاء محصورا في الإستراتيجية العامة للوسيلة الإعلامية، وليس في تفاصيل العمل ويومياته. هذا التحدي برز بوضوح في التجارب البسيطة التي ظهرت بالفعل الآن في أعقاب انتصار الثورات في مصر وتونس في تجارب إعلام حزبي إسلامي جديد.