- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:مقدمات في السيرة النبوية
لم تعرف البشرية محاربا وفاتحا أرحم بمحاربيه ومن يقع في يديه من الأسرى من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .. ففي الوقت الذي كانت فيه الجاهلية لا تعرف أخلاقيات للحروب ولا حقوق للأسرى ، وتستباح الحرمات والأعراض ، جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليضع للعالمين تصورا ساميا لحقوق الأسرى ، ورغم أن هؤلاء الأسرى ما هم إلا محاربون للإسلام ، إلا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بالإحسان إليهم ، وقرر لهم واجبات وحقوقا على المسلمين ، منها : الحرية الدينية ، والحق في الطعام ، والكسوة ، والمعاملة الحسنة ، وكل ذلك له شواهد في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
وقبل أن نذكر بعضا من مواقفه - صلى الله عليه وسلم - مع الأسرى نذكر طرفا من هديه ووصاياه المتعلقة بما قبل الحرب وأثناءها ، لنرى أروع القيم الحضارية من سيرة خير البشرية ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..
هديه قبل القتال :
لم يكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينظر إلى أعدائه نظرة لا تفرق بين معاهد ومحارب ، ولم يكن ينقض العهود أو يغدر بأعدائه ، بل كان يعامل كل فريق بمقتضى ما يربط بينهما من علاقات السلم والحرب ، وقد لخص ابن القيم مجمل هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك في كتابه زاد المعاد فقال : " .. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام : أهل صلح وهدنة ، وأهل حرب ، وأهل ذمة ، فأمر أن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم ، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد ، فإن خاف منهم خيانة نبذ إلى عهدهم ، ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد ، وأمر أن يقاتل من نقض عهده ، ولما نزلت سورة " براءة " نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها ، فأمره فيها أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام ، وأمره بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، فجاهد الكفار بالسيف والسنان ، والمنافقين بالحجة واللسان .." ..
هديه أثناء القتال :
رغم كون القتال عملية تزهق فيها الأرواح وتجرح الأبدان ، ويقصد فيها إلحاق أنواع الأذى بالأعداء ، فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرع لأمته آدابا يتحلون بها قبل الحرب وأثناءها وبعدها .. فعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا و لا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا ) رواه مسلم .
فإذا وضعت الحرب أوزارها ، ووقع المقاتلون من الكفار أسرى في أيدي المسلمين ، راعى النبي - صلى الله عليه وسلم - معاني الرحمة والكرامة الإنسانية التي تراعي مصلحة الدولة المسلمة وحقوق الأسرى ، والتي لم يبلغها القانون الدولي الإنساني المعاصر ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( استوصوا بالأسارى خيرا ) رواه الطبراني .
يقول ابن القيم في هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأسرى : " .. كان يمن على بعضهم (يطلق سراحهم بلا فداء) ، ويقتل بعضهم ، ويفادي بعضهم بالمال ، وبعضهم بأسارى المسلمين ، فعل ذلك كله بحسب المصلحة .. " ..
وهذه بعض مواقفه - صلى الله عليه وسلم مع الأسرى من خلال سيرته المشرفة :
أسرى بدر :
أوصى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه بعد معركة بدر بمعاملة أسرى المشركين معاملة حسنة ، وقال لهم : ( استوصوا بالأسارى خيرا ) رواه الطبراني ، وبهذه التوصية النبوية الكريمة ظهر تحقيق قول الله تعالى : { ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا }(الإنسان:8) ، فقد امتثل الصحابة - رضوان الله عليهم - وصية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وضربوا أروع الأمثلة في معاملة الأسرى ..
يقول أخ لمصعب بن عمير ـ رضي الله عنه ـ : " .. وكنت في نفر من الأنصار، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر وأطعموني البر، لوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " رواه الطبراني .
ويقول أبو العاص بن الربيع : " كنت في رهط من الأنصار جزاهم الله خيرا ، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر، والخبز معهم قليل ، والتمر زادهم ، حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إلي " ،
وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد قوله : " وكانوا يحملوننا ويمشون " ..
وعاد أولئك الأسرى إلى مكة وكل حديثهم عن كرم أخلاق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه ، وعن محبته وسماحته ، وعن دعوته وما فيها من البر والتقوى ، والإصلاح والخير ..
وقد تركت هذه المعاملة الحسنة أثرها في قلوب هؤلاء الأسرى ، فأسلم كثير منهم في أوقات لاحقة ، فأسلم أبو عزيز عقيب بدر بعد وصول الأسرى إلى المدينة ، وأسلم معه السائب بن عبيد ..
أسرى غزوة بني المصطلق :
كان من بين الأسرى الذين أسرهم المسلمون في غزوة بني المصطلق جويرية بنت الحارث بن ضرار سيد قومه ، وكانت بركة على قومها ، فقد ذكرت ـ أم المؤمنين ـ عائشة : ( أن جويرية أتت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقالت له : قد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك ، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس ،فكاتبته على نفسي ، فجئت أستعينك على كتابي .. فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : فهل لك في خير من ذلك ؟! ، قالت : وما هو يا رسول الله ؟ ، قال : أقض عنك كتابك وأتزوجك ، قالت : نعم يا رسول الله قد فعلت .. قالت عائشة : وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تزوج جويرية بنت الحارث ، فقال الناس : أصهار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأرسلوا ما في أيديهم من سبايا بني المصطلق .. فلقد أعتق تزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق ، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها ) رواه أحمد .. ومن ثم تعتبر غزوة بني المصطلق (المريسيع) من الغزوات الفريدة المباركة التي أسلمت عقبها قبيلة بأسرها ، وكان زواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بجويرية ـ رضي الله عنها ـ السبب في ذلك ، إذ استكثر الصحابة على أنفسهم ، أن يكون أصهار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحت أيديهم أسرى ، فأعتقوهم جميعا بغير فداء ..
أسرى بني قريظة :
كانت غزوة بني قريظة نتيجة من نتائج غزوة الأحزاب حيث تم فيها محاسبة يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحلك الظروف وأقساها ، وتآمروا مع كفار قريش على المسلمين ..
بعد عودة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخندق ووضعه السلاح أمر الله تعالى نبيه بقتال بني قريظة ، فأمر - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالتوجه إليهم .. وضرب المسلمون الحصار على بني قريظة خمسا وعشرين ليلة ، ولما اشتد الحصار وعظم البلاء على بني قريظة ، أرادوا الاستسلام والنزول على أن يحكم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيهم سعد بن معاذ ـ رضي الله عنه ـ إذ رأوا أنه سيرأف بهم بسبب الحلف بينهم وبين قومه الأوس ، فجئ بسعد محمولا لأصابته بسهم في ذراعه يوم الخندق ، فقضى أن تقتل المقاتلة وأن تسبى النساء والذرية ، وأن تقسم أموالهم ، فأقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : ( قضيت بحكم الله ) رواه البخاري .
وهذا جزاء عادل نزل بمن غدر بالمسلمين ، فكان جزاؤهم من جنس عملهم حين عرضوا بخيانتهم أرواح المسلمين للقتل ، وأموالهم للنهب ، ونساءهم وذراريهم للسبي ، فكان أن عوقبوا بذلك جزاء وفاقا ..
فتح مكة :
من أهم الدلالات التي أفصح عنها فتح مكة موقف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أهلها الذين ناصبوه العداء منذ أن بدأ بتبليغ دعوته ، فبعد أن أكرمه الله ونصره عليهم ، وتمكن منهم ، وهم الذين آذوه ، وأهالوا التراب على رأسه ، وحاصروه في شعب أبي طالب ثلاث سنين ، حتى أكل هو ومن معه ورق الشجر ، بل وتآمروا عليه بالقتل ، وعذبوا أصحابه أشد العذاب ، وسلبوا أموالهم وديارهم ، وأجلوهم عن بلادهم ، لكنه - صلى الله عليه وسلم - قابل كل تلك الإساءات بموقف كريم في العفو ـ يليق بمن أرسله الله رحمة للعالمين ـ ، فقال لهم : ( ما ترون أني فاعل بكم ؟! ، قالوا : أخ كريم ، وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ) رواه البيهقي .
غزوة حنين :
كان انتصار المسلمين على هوازن في حنين انتصارا كبيرا ، وكانت الغنائم كثيرة ، كما أسروا عددا ضخما من المشركين معظمهم من نساء هوازن وأطفالها ، وعندما عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، جاء وفد هوازن لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالجعرانة وقد أسلموا ، فقالوا : يارسول الله إنا أصل وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء مالم يخف عليك ، فامنن علينا من الله عليك ..
وسرعان ما لبى النبي - صلى الله عليه وسلم - الطلب بما عرف عنه من تسامح وعفو وكرم ، وأطلق سراح كل الأسرى ، فلقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينشد في ذروة انتصاره أن يدخل الناس في دين الله ، أكثر من نشدانه عقابهم أو الانتقام منهم ..
وبهذه الرحمة والسياسة الحكيمة استطاع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكسب هوازن وحلفاءها إلى صف الإسلام ، واتخذ من هذه القبيلة القوية رأس حربة يضرب بها قوى الوثنية في المنطقة ..
الحرية الدينية للأسير :
من الحقوق التي كفلها الإسلام للأسير حق الطعام والكسوة ، فلا يجوز تركه بدون طعام وشراب حتى يهلك ، وقد عنون البخاري في صحيحه بابا أسماه : " باب الكسوة للأسارى " ..
بل من حقوق الأسير حقه في ممارسة شعائر دينه خلال مدة أسره ، فلا يجبر الأسير على اعتناق الإسلام ، ولم يعرف عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه أجبر أسيرا على اعتناق الإسلام ، ومن ثم لما رأى بعض الأسرى تلك المعاملة من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دفعهم ذلك إلى اعتناق الإسلام ، وكان ذلك بعد إطلاق سراحهم ، كما فعل ثمامة بن أثال ـ رضي الله عنه ـ ، فبعد أن أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإطلاق سراحه , ذهب ليغتسل ويسلم ، وكذلك فعل الوليد بن أبي الوليد بعد أن افتداه أهله من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسلم ، فقيل له : لماذا أسلمت بعد الفداء ؟ ، فقال : حتى لا يظن أحد أنما أسلمت من عجز الأسر ..
ومن ذلك أيضا ما فعله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع غورث بن الحارث الذي استل سيف النبي من الشجرة ، وقال له : من يمنعك مني ؟ ، وعندما وقع السيف من الرجل وأصبح في يد رسول الله ، لم يجبره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الدخول في الإسلام ، بل عفا عنه وتركه حرا طليقا ، فأسلم بعد ذلك ..
إن معاملة الأسرى تختلف من عصر إلى آخر ، ومن شريعة إلى أخرى ، فبعض الأمم كانت تفتك بالأسرى لإرهاب عدوها ، ولم تعرف الأمم قانونا لمعاملة الأسرى قبل الإسلام ، وقد راعى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ معاني الرحمة والكرامة الإنسانية مع الأسرى من أعدائه ، تلكم الرحمة التي لم يبلغها القانون الدولي الإنساني المعاصر ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصيته العامة والشاملة لكل إحسان وخير بالأسرى : ( استوصوا بالأسارى خيرا ) رواه الطبراني ..