البهتان

8 1887


لما كان من أعظم ما يدخل الناس النار الفم والفرج كان حريا بالعبد أن يصون لسانه ويمسكه عما حرم الله ونهى عنه من الكذب والغيبة والنميمة وغيرها من الآفات المهلكة، ومن أعظم هذه الآفات آفة البهتان التي عدها بعض أهل العلم من الكبائر.
معنى البهتان
تدور معاني ابهتان في اللغة حول الكذب والافتراء والباطل، أما البهتان في الاصطلاح فهو: الكذب والافتراء الباطل الذي يتحير منه.
وقال المناوي: البهتان: كذب يبهت سامعه ويدهشه ويحيره لفظاعته، وسمي بذلك لأنه يبهت أي يسكت لتخيل صحته، ثم ينكشف عند التأمل.
وقال الكفوي: البهتان: هو الكذب الذي يبهت سامعه أي يدهش له ويتحير. وهو أفحش من الكذب، وإذا كان بحضرة المقول فيه كان افتراء.( راجع نضرة النعيم/ 9)
الفرق بين البهتان والاغتياب والافتراء والإفك:
تتقارب معاني هذه الألفاظ، بيد أنها عند التدقيق مما تختلف دلالته وتتفاوت، فالاغتياب هو أن يتكلم شخص خلف إنسان مستور، بكلام هو فيه، وإن لم يكن ذلك الكلام فيه فهو بهتان، والكذب الفاحش الذي يدهش له سامعه هو بهتان إن لم يكن بحضرة المقول فيه، فإن كان بحضرته كان افتراء، سواء أكان ذلك عن قصد أو عن غير قصد، فإذا كان ذلك عن قصد كان إفكا.

وقد ورد البهتان بمعاني متعددة في القرآن الكريم ،ومنها:
الكذب. ومنه قوله تعالى في سورة النور:
{سبحانك هذا بهتان عظيم} ( النور- 16)
والثاني: الزنا. ومنه قوله تعالى
{ولا يأتين ببهتان يفترينه }(الممتحنة- 12)
والثالث: الحرام. ومنه قوله تعالى:{ أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا} (النساء- 20).

ولما كان البهتان من الأمور المذمومة في الشرع وعند أهل المروءات فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة على من أراد الدخول في الإسلام ان يتجنب البهتان، فعن عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- وكان شهد بدرا، وهو أحد النقباء ليلة العقبة- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه:
"بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه". فبايعناه على ذلك.(رواه البخاري).

ولا شك أن البهتان أعظم عند الله من الغيبة فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "ذكرك أخاك بما يكره" قيل:
أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟. قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته. وإن لم يكن فيه، فقد بهته".(رواه مسلم).
وبين النبي صلى الله عليه وسلم شدة حال هؤلاء الذين يرمون الناس بالباطل يوم القيامة فقال: " ...ومن رمى مسلما بشيء يريد شينه (أي عيبه وذمه) به حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال".( رواه أبو داود،وحسنه الألباني).

قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى:
{والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا} [أي ينسبون إليهم ما هم براء منه لم يعملوه ولم يفعلوه {فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا } وهذا هو البهت الكبير أن يحكي أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقص لهم، ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله، ثم الرافضة الذين ينتقصون الصاحبة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم فإن الله- عز وجل- قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم، وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم وينتقصونهم ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبدا، فهم في الحقيقة منكسوا القلوب، يذمون الممدوحين، ويمدحون المذمومين].

البغض يحمل ضعيف الإيمان على البهتان

وهذا واقع مشاهد فقل من يسلم عند البغضاء والخصومة من الوقوع في عرض من يبغضه حتى إنه ليبهته بأن ينسب إليه ما ليس فيه، ويدل على ذلك من السنة ما رواه البخاري رحمه الله عن أنس- رضي الله عنه- قال: بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فأتاه فقال:
إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، قال: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟، ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه، ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خبرني بهن آنفا جبريل". قال: فقال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت. وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها". قال: أشهد أنك رسول الله. ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك.
فجاءت اليهود، ودخل عبد الله البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟" قالوا:
أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟" قالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه.
فانظر كيف حملهم بغض الحق على الوقوع فيمن قالوا عنه قبل ثوان إنه أعلمهم وأخيرهم!!.

ويدل على هذا المعنى أيضا ما رواه أحمد عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن فيك من عيسى مثلا، أبغضته يهود حتى بهتوا أمه، وأحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس به". ألا وإنه يهلك في اثنان، محب يقرظني بما ليس في، ومبغض يحمله شنآني على أن يبهتني، ألا إني لست بنبي، ولا يوحى إلي، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله فحق عليكم طاعتي فيما أحببتم وكرهتم.
نسأل الله أن يرزقنا العدل والإنصاف في الرضا والغضب، والحمد لله رب العالمين.

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة