زيد ولغة اليهود

0 1690

كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حريصا على أن يتعلم المسلمون اللغات المختلفة ، من أجل التواصل مع الآخرين لدعوتهم إلى الإسلام وأمن شرهم ، ولذلك أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ أن يتعلم لغة اليهود ليكاتبهم بها ، كما يقرأ عليه كتبهم إذا وردت إليه ، ويوضح للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرادهم .

وفي السنة الرابعة من الهجرة تعلم زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ لغة اليهود كما أمره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فعن خارجة بن زيد بن ثابت قال : قال زيد بن ثابت : ( أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتعلمت له كتاب يهود ، وقال : إني والله ما آمن يهود على كتابي ، فتعلمته ، فلم يمر بي إلا نصف شهر حتى حذقته ، فكنت أكتب له إذا كتب ، وأقرأ له إذا كتب إليه )(أبو داود) .

إن تعلم زيد ـ رضي الله عنه ـ لغة اليهود في نصف شهر ، يدل على ذكاء مفرط ، وقوة حافظة ، فقد كان ـ رضي الله عنه ـ ممن حفظ القرآن كله على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومن أشهر كتاب الوحي بين يديه ، وهو الذي تولى كتابة القرآن في عهد أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ ، وكان أحد كاتبي المصاحف في عهد عثمان ـ رضي الله عنه ـ .

وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ لزيد بتعلم لغة اليهود وكتابتهم يدل على أن الإسلام يحث المسلم على تعلم لغة الغير وكتابتهم ، والتعرف على علومهم ومعارفهم إذا دعت لذلك ضرورة وكان لخدمة الإسلام ونصرة قضاياه ، ومن ذلك أيضا يتضح جسامة مهمة الترجمان في الدولة الإسلامية ، فهو الذي يطلع على أسرار الدولة ومراسلاتها ، ولا يصلح أن يطلع كل إنسان على تلك الكتب الصادرة والواردة ، لئلا تختل الدولة وتكشف أسرارها ، ولذلك أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ بتعلم لغة اليهود . ومن المعلوم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ طلب من زيد أن يتعلم لغة اليهود بعد أن حذق اللغة العربية ، وحفظ من القرآن الكريم ما حفظ .

ومن فوائد أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لزيد بتعلم لغة اليهود : أن كل ميدان من الميادين الدعوية النافعة للإسلام لابد أن يكون في هذه الأمة من يتولاه .

ولا شك أن دعوة الناس بلغتهم التي يعرفونها سبيل لا بد منه ، ولا سيما مع كثرة المجتمعات واختلاف اللغات ، وتمسك كل مجتمع بلغته . فدعوة الذين لا يدينون بالإسلام ولا يعرفون اللغة العربية لابد أن تكون بلغتهم ، وكيف يمكن إخراجهم من الكفر إلى الإيمان ، ومن الظلمات إلى النور ، وهم لا يعرفون لغة القرآن الكريم ومعانيه ، وخصائص دين الإسلام؟! .. ومن ثم فإن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لما غزوا بلاد العجم لم يقاتلوهم حتى دعوهم إلى الإسلام بواسطة المترجمين . ولما فتحوا البلاد الأعجمية دعوا الناس إلى الإسلام باللغة العربية ، وأمروا الناس بتعلمها ، ومن جهلها منهم دعوه بلغته ، وأفهموه المراد باللغة التي يفهمها ، فقامت بذلك الحجة ، وانقطعت المعذرة .

وفي ذلك أيضا دليل على جواز تعلم لغات الكفار إذا كانت هناك حاجة لتعلمها ، أما ما يشاهد من افتتان بعض المسلمين بتعلم لغات الكفار لا لشيء إلا لمجرد التفاخر والتباهي بها ـ وربما كان على حساب لغة القرآن ـ ولا شك أن هذه من الضعف والانهزامية ، وعلى هذا يحمل كراهة السلف وأهل العلم لتعلم لغات الكفار والتحدث بألسنتهم من غير حاجة ، قال عمر ـ رضي الله عنه ـ : " لاتعلموا رطانة الأعاجم .. " .

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى : " .. وأما مخاطبة أهل اصطلاح باصطلاحهم ولغتهم ، فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك ، وكانت المعاني صحيحة ، كمخاطبة العجم من الروم والفرس والترك بلغتهم وعرفهم ، فإن هذا جائز حسن للحاجة ، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه " .  ثم يقول : " .. وكذلك يترجم القرآن والحديث لمن يحتاج إلى تفهيمه إياه بالترجمة ، ولذلك يقرأ المسلم ما يحتاج إليه من كتب الأمم ، وكلامهم بلغتهم ، ويترجمها بالعربية ، كما أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ أن يتعلم كتاب اليهود ليقرأ له ويكتب له ذلك ، حيث لم يأمن من اليهود عليه .." .

ونستفيد من هذه الواقعة أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يختار في تربيته الشخص المناسب للمكان المناسب والمهمة المناسبة .
والمتأمل في سيرة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يلمس هذا واضحا ، فكل شخص له ميدان ومجال يؤدي فيه دورا لا يمكن أن يؤديه الآخر ، فمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ أعلم الأمة بالحلال والحرام ، وهذا لا يعني أنه أفضلهم لمجرد كونه أعلم الأمة بالحلال والحرام ، وإنما معايير التفضيل معايير أخرى . وابن عباس ـ رضي الله عنه ـ لتفسير القرآن . وعمرو بن سلمة ـ رضي الله عنه ـ على صغر سنه كان إذا حضرت الصلاة يؤم قومه ، لضبطه وحفظه كثيرا من آي القرآن الكريم . وتميز عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ بشدة عنايته بكتابة السنة وتحريرها . وزيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ كان من كتاب الوحي .

والناظر في مجتمع شباب الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يعجب من قوة عزمهم وعلو همتهم ، فلقد كان الواحد منهم لا يدخر وسعا في تقديم النفع للإسلام على حسب طاقته وقدرته 

               وإذا كانت النفوس كبارا         تعبت في مرادها الأجسام

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة