- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:خواطـر دعوية
من تمثل سير سلفنا الصالح ونظر في معاناتهم في طلب العلم هانت عليه كل شدة، واحتقر نفسه أمامهم، فقد كابدوا من الصعاب ما يفوق التخيل، وتركوا البلاد والأولاد، وهجروا اللذات والشهوات وجابوا مشارق الأرض ومغاربها، سعيا وراء حديث واحد أو لقاء شيخ أو معرفة مسألة، وأنت - اليوم – تجزع من قراءة ساعة، وتتكاسل عن سبر صفحات قليلة، وتتوافر لك سبل المعرفة فما تمد لها يدا، فحالك – تالله – حال عجيبة، فانظر إلى هؤلاء الأفذاذ كيف طلبوا العلم؟ عساك تنتفع بذلك.
قيل للإمام أحمد: رجل يطلب العلم؛ يلزم رجلا عنده علم كثير أو يرحل؟ قال: "يرحل يكتب عن علماء الأمصار، فيشام الناس ويتعلم منهم".
وقيل له مرة: أيرحل الرجل في طلب العلم؟ فقال: "بلى والله شديدا، لقد كان علقمة بن قيس النخعي، والأسود بن يزيد النخعي،- وهما من أهل الكوفة بالعراق – يبلغهما الحديث عن عمر، فلا يقنعهما حتى يخرجا إليه – إلى المدينة المنورة – فيسمعانه منه".
قال ابن خلدون في المقدمة: "إن الرحلة في طلب العلوم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم، والسبب في ذلك: أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما يتحلون به من المذاهب والفضائل، تارة: علما وتعليما ولقاء، وتارة: محاكاة وتلقينا بالمباشرة. إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاما وأقوى رسوخا، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها وتفتحها.
والاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مختلطة على المتعلم، حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم، ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين، فلقاء أهل العلوم وتعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها، فيجرد العلم عنها، ويعلم أنها أنحاء تعليم وطرق توصيل، وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في الملكات، ويصحح معارفه، ويميزها عن سواها، مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم، وهذا لمن يسر الله عليه العلم والهداية.
فالرحلة لابد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال، بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال، {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}[البقرة:213]
الرحلة شأن قديم
شأن الرحلة قديم تليد، بداية من رحلة نبي الله موسى الكليم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم. وقد قص الله خبر رحلته في القرآن الكريم مع الخضر، وما كان في رحلته من العوائق والغرائب، فبقيت الرحلة سنة نبوية وشعار طلبة العلم إلى يوم الدين.
وهؤلاء صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم منهم من قطع مئات الأميال ليلقاه ويتثبت من صدق نبوته، ومنهم من سافر إليه من البلاد البعيدة ليسأله عن مسألة وقعت له.
فهذا عقبة بن الحارث سافر من مكة إلى المدينة ليلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يسأله عن مسألة رضاع وقعت له.. فعن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج. فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني، ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف وقد قيل؟! "ففارقها عقبة، ونكحت زوجا غيره.
وهذا جابر بن عبد الله رضي الله عنه رحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد. روى البخاري في "الأدب المفرد": أن جابر بن عبد الله قال: بلغني حديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فابتعت بعيرا، فشددت إليه رحلي شهرا، حتى قدمت الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، فبعثت إليه أن جابرا بالباب، فرجع الرسول فقال: جابر بن عبد لله؟!! فقلت: نعم، فخرج فاعتنقني، قلت: حديث بلغني لم أسمعه خشيت أن أموت أو تموت، فذكر الحديث.
فوائد الرحلة في طلب العلم
ولابد من إشارات نقف عندها لنستفيد منها.. ومن ذلك:
1- أن تبصر كم من الأوقات والأعمار قضاها هؤلاء في طلب العلم بعيدين عن الأهل والولد والزوجة والبلد، متفرغين للطلب، وقارن هذا الحال وصنيع المتعالمين في هذا الزمان ممن ينتسبون إلى العلم، وجل اهتمامهم التصدر والعلو، فلا ينبت لهم زرع نافع. فمن لا يعاني ذل التعلم، ويقضي الأعوام في غاية بذره فلن يحصد، ومن هنا كره كثير من السلف التصنيف قبل الأربعين، بل لم يفتوا إلا في سن متأخرة حفظا للعلم من أن ينتهك حرمته من ليس له بأهل.
2- مدى تحملهم للصعاب من فقر وشظف عيش وصعوبة وسائل السفر، وانظر لتقاعس أبناء عصرنا عن الارتحال - ولو بالسيارات التي عادت الآن أسوأ سبل السفر في ظل وجود الطائرات بأنواعها المختلفة- لتدرك علو هممهم في الصبر والتحمل، وتعلم غلاء العلم لديهم وعلى قلوبهم، إذ ركبوا في تحصيله الصعب والذلول، وقطعوا البراري والقفار، وامتطوا من أجله المخاطر والبحار، ولقوا من الشدائد والأهوال ما الله به عليم.
3- صقل تلك المعاناة لنفوسهم، فعز العلم عندهم، ورعوه حق رعايته، ولذلك خرجوا أئمة أخيارا في كل علم من العلوم، ولم يجد الزمان بأمثالهم لما لم يستن الناس بسننهم.
انظر لحال طلبة العلم في عصرنا ممن يدرسون دراسة أكاديمية أومن دونهم، يقول عبد الفتاح أبوغدة في كتابه "صفحات من صبر العلماء":
"فوازن – رعاك الله – بين الدراسة التي أثمرتها هذه الرحلات التي عركت الطلاب الراحلين عركا طويلا، وبين دراسة طلاب جامعاتنا اليوم! يدرسون فيها أربع سنوات، وأغلبهم يدرسون دراسة صحفية فردية، لا حضور ولا سماع، ولا مناقشة ولا اقتناع، ولا تطاعم في الأخلاق ولا تأسي، ولا تصحيح لأخطائهم ولا تصويب، ولا تشذيب لمسالكهم، ويتسقطون المباحث المظنونة السؤال من مقرراتهم – المختصرة –، ثم يسعون إلى تلخيص تلك المقررات، ثم يسعون إلى إسقاط البحوث غير الهامة من المقروءات، بتلطفهم وتملقهم لبعض الأساتذة فيجدون ما يسرهم وإن كان يضرهم، وبذلك يفرحون.
وبعد ذلك يتعالون بضخامة الألقاب، مع فراغ الوطاب، ويوسعون الدعاوي العريضة، ويجهلون العلماء الأصلاء بآرائهم الهشة البتراء، وينصرون الأقوال الشاذة لتجانسها مع عملهم وفهمهم، ويناهضون القواعد المستقرة والأصول الراسخة المتوارثة، ولم يقعدوا مقاعد العلم والعلماء، ولم يتذوقوا بصارة التحصيل عند القدماء! ولكنهم عند أنفسهم أعلم من السابقين!!
ويشهد المراقب للحال العلمية اليوم: كثرة متزايدة في الجامعيين والجامعات، وفقرا متزايدا في العلم وأهله، وضحالة في الفهم والمعرفة، ونقصا كبيرا مشهودا في العمل بالعلم، وهذه مصيبة من أدهى المصائب! والله المرجو أن يلهم المنوط بهم أمور التعليم في البلاد الإسلامية أن يتبصروا بالأمر، ويتداركوا هذا الخطر قبل تأصله وإزمانه، واستفحال آثاره.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله، والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
راجع "أصول الوصول" للشيخ يعقوب