- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:تدوين السنة وعلوم الحديث
قام الصحابة رضي الله عنهم بتبليغ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبذلوا غاية ما في وسعهم من أجل صون الحديث عن التحريف والتغيير ، وقد كان في عوامل الحفظ الذاتية التي اشتمل عليها هذا الدين خير معين لهم ولمن بعدهم من أئمة العلم للمحافظة على تراث النبوة ، فقد وضعت توجيهات الشريعة الركن الأساسي لأصول النقل ، والتثبت في الأخبار ، ومن ذلك قوله تعالى : {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون} (النحل: 105) ، وقوله تعالى : {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} (الإسراء: 36) ، وقوله : {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} (الحجرات: 6)، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر عنه : (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) ، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حمل ناقل الكذب إثم الكاذب المفتري ، وذلك في الحديث الصحيح المستفيض المشتهر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين) أخرجه مسلم.
ونتج عن هذه التوجيهات أصول وقوانين الرواية ، التي تكفل حفظ الحديث وصيانته من التحريف والتبديل ، وكان الناس آنذاك على أصل العدالة ، فلا حاجة إلى الجرح والتعديل ، لأن العصر هو عصر الصحابة ، وجميعهم عدول ، ولم يكن الأمر يحتاج لأكثر من التحرز عن الوهم والخطأ ، فاتبع الصحابة من قوانين الرواية ما يحتاجون إليه في عصرهم ، للتثبت من صحة النقل ، والتحرز من الوهم ، وما زالت هذه القوانين تتفرع لتلبية المطالب المستجدة عصرا بعد عصر ، حتى بلغت ذروتها ، ومن أهم قوانين الرواية في عهد الصحابة :
أولا : تقليل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خشية أن تزل أقدام المكثرين بسبب الخطأ أو النسيان ، فيقعوا في شبهة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث لا يشعرون ، فضلا عن قصدهم أن يتفرغ الناس لحفظ القرآن وألا ينشغلوا عنه بشيء ، فكان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يشددان في ذلك ، وسلك الصحابة بعدهم هذا السبيل ، حتى اشتهر واستفاض عنهم مرفوعا وموقوفا (كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع) أخرجه مسلم .
ثانيا : التثبت في الرواية عند أخذها وعند أدائها ، قال الإمام الذهبي في ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه : وكان أول من احتاط في قبول الأخبار ، فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أن تورث ، فقال : " ما أجد لك في كتاب الله شيئا ، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لك شيئا ، ثم سأل الناس ، فقام المغيرة فقال : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس ، فقال له : هل معك أحد ؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه .
وقال في ترجمة عمر بن الخطاب : وهو الذي سن للمحدثين التثبت في النقل ، وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب ، فروى الجريري - يعني سعيد بن إياس - عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى سلم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات ، فلم يؤذن له ، فرجع ، فأرسل عمر في أثره ، فقال : لم رجعت ؟ قال : سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع ) ، قال : لتأتيني على ذلك ببينة أو لأفعلن بك ، فجاءنا أبو موسى منتقعا لونه ونحن جلوس ، فقلنا : ما شأنك ؟ ، فأخبرنا ، وقال : فهل سمع أحد منكم ؟ فقلنا : نعم ، كلنا سمعه ، فأرسلوا معه رجلا منهم حتى أتى عمر فأخبره .
وقال في ترجمة علي رضي الله عنه : كان إماما عالما متحريا في الأخذ ، بحيث إنه يستحلف من يحدثه بالحديث ... .
ثالثا : نقد الروايات ، وذلك بعرضها على النصوص والقواعد الشرعية ، فإن وجد مخالفا لشيء منها تركوا العمل به ، ومن ذلك ما ورد أن عائشة رضي الله عنها سمعت حديث عمر وابنه عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه ) ، فقالت : رحم الله عمر ، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يعذب المؤمنين ببكاء أحد ، ولكن قال : إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه ، وقالت : حسبكم القرآن : {ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الزمر: 7) وهو في الصحيحين ، زاد مسلم : " إنكم لتحدثوني غير كاذبين ولا مكذبين ولكن السمع يخطىء ".
ومما ينبغي التنبه له أنهم إنما كانوا يفعلون ذلك للاحتياط في ضبط الحديث ، لا لتهمة أو سوء ظن ، ولذلك قال عمر رضي الله عنه لأبي موسى : إني لم أتهمك ولكن أحببت أن أتثبت ، وكذلك ردهم لبعض الأحاديث كان اجتهادا منهم ، لأنهم رأوا مخالفتها لما استنبطوه من القرآن ، وقد يخالفهم غيرهم من الصحابة في هذا الاجتهاد فيعمل بما رده غيره ، والغرض هو بيان أنهم لم يكونوا يأخذون كل ما يسمعونه مأخذ القبول والتسليم ، فيتلقفونه وينسبوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
هذه بعض القوانين التي سار عليها الصحابة رضي الله عنهم في روايتهم ونقلهم للحديث ، وما ذاك إلا حرصا منهم على التحري والتثبت ، وصيانة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التحريف والتغيير .